انتهت القمة الثلاثية الألمانية، الفرنسية والبريطانية في برلين إلى نصف اتفاق. فرئيس الحكومة البريطاني طوني بلير وافق على اعطاء دور أكبر للأمم المتحدة في العراق. والرئيس الفرنسي جاك شيراك يوافق على المهلة الزمنية. بريطانيا تريد فترة «سنوات» لتسليم الحكومة العراقية مسئولية البلاد، وفرنسا مدعومة من ألمانيا تطلب ألا تزيد الفترة على «أشهر». والفارق بين «السنوات» و«الأشهر» يعني ان الأزمة العراقية لاتزال مفتوحة بين حالين: الأمركة أو التدويل.
يضاف إلى الموقف الفرنسي - وإلى حد ما الألماني - الموقف الروسي الذي عبر عنه الرئيس فلاديمير بوتين حين أشار إلى رفض موسكو إرسال قوات روسية إلى العراق قبل التوصل إلى حل متوازن للأزمة.
المواقف المذكورة اذا تؤجل مجددا امكانات التوصل إلى حل «عاجل» للمسألة العراقية بعد ان جرى الحديث عن صفقة كبرى أو عقد دولي كبير تشترك الدول الكبرى في مجلس الأمن لصوغ بنوده في قرار جديد. القرار الجديد سيصدر ولكنه لن يشير إلى حل للخلاف الذي انفجر قبل اعلان الحرب الأميركية على العراق. فالأزمة الدولية لاتزال تراوح مكانها بين إدارة أميركية انفردت بقرارها وإرادة دولية حاولت واشنطن كسرها واذلالها من خلال حربها الخاصة على دولة مستقلة ومعترف بها في الأمم المتحدة.
المشكلة الآن ليست في العراق ولكن فيما بعده. فالدول الكبرى لا تريد التساهل في المسألة العراقية حتى لا تتحول الى سابقة في العلاقات الدولية، وتصبح أوروبا وروسيا والصين مجرد اصفار (أو أرقام) تضاف إلى «الرغبة الأميركية» حين الحاجة ويستغنى عنها حين تأتي ظروف مخالفة.
العراق برأي الدول الكبرى سقط عسكريا وهذا من الامور المتفق عليها. المشكلة تبدأ في السياسة المتوقعة والنتائج المترتبة على العلاقات الدولية في حال وافقت الدول الكبرى على الخلاصات التي انتجتها الحرب بالقوة على العراق. فالموضوع بالنسبة الى الدول الكبرى له صلة بمستقبل توازن المصالح ومدى استعداد واشنطن للتعلم من دروس العراق. وهناك مخاوف من تلك الدول من ان تفهم أميركا الرسالة بشكل سيئ. إذ في حال اعطت «الضوء الأخضر» في منطقة محددة ستفهم «كتلة الشر» في «البنتاغون» من هذا التنازل انه بداية انتصار لوجهة نظرها، واشارة ايجابية من الدول الكبرى لمواصلة ما تسميه «الضربات الاستباقية» في استراتيجية اطلقت عليها سياسة «الحرب الدائمة» التي تطول بين 04 و06 دولة في العالم.
المسألة العراقية اذا تجاوزت حدود بلاد الرافدين وتحولت الآن إلى مشكلة دولية... اذ في ضوء النتائج المترتبة عليها، والدروس المستخلصة من تداعياتها، والترتيبات المتوقعة من مجلس الأمن لاحتواء سلبياتها يمكن قراءة مستقبل العلاقات الدولية قبل التوصل الى عقد صفقة دولية تشبه «العقد الدولي» الذي انتجته الدول الكبرى في القرن التاسع عشر «في فيينا وبرلين» وفي القرن العشرين (في فرنسا ويالطا).
عدم توصل الدول الثلاث إلى اتفاق نهائي بشأن مسألة العراق في برلين يكشف عن وجود ازمة حقيقية تتطلب المزيد من البحث والتداول والدرس قبل صوغ مشروع قرار جديد يحدد في النهاية الأطر العامة للسياسة الدولية. فالمسألة في أبعادها العميقة ترسم حدود المصالح وتوازنها ودور كل طرف في قيادة «النظام الدولي» الذي لم تحدد حتى الآن بنوده وفلسفته منذ نهاية «الحرب الباردة».
فالحرب انتهت ولم ينهض «السلْم البارد» فأميركا لاتزال على حالها، و«إسرائيل» ترفض الانصياع للقرارات الدولية و«مبادرات السلام» العربية والاوروبية، وواشنطن تدعم تل ابيب في «السرّاء والضرّاء» حتى لو اضطرت الى مخالفة رغبة 331 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
انتهت القمة الثلاثية في برلين إلى «نصف اتفاق». والنصف الآخر يحتاج الى تسوية تبدأ في العراق ولكنها تنتهي بتعديل سياسة العدوان التي تنتهجها «كتلة الشر» في البنتاغون.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 382 - الإثنين 22 سبتمبر 2003م الموافق 26 رجب 1424هـ