على رغم أن ثلاث دول مغاربية مشغولة بالكامل بالإعداد للانتخابات الرئاسية، فإن ما يجري في الجزائر يعتبر الأكثر إثارة بكل المقاييس. ففي موريتانيا أو تونس لن تشكل نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة مفاجأة لأحد. ومحاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها فريق من العسكر، زادت من دعم الرئيس الموريتاني الحالي، ووفرت له فرصة لمزيد من إحكام القبضة على جهاز الدولة، ما سيمكنه من تحقيق انتصار عريض خلال الانتخابات الرئاسية القادمة التي ستنظم يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. أما بالنسبة إلى تونس فالجميع عارفون بأن الرئيس زين العابدين بن علي سيفوز بدورة رئاسية رابعة، وذلك لاعتبارات كثيرة ليس هذا مجال استعراضها. الرئيس الوحيد في المنطقة العربية الذي يشعر بأنه مهدد حقا في أن يستمر في موقعه، وقد يضطر إلى مغادرة منصب الرئاسة بعد خمس سنوات فقط من الحكم هو بلا شك الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة. لهذا يتابع الجزائريون والمراقبون بانتباه وقائع معركته السياسية من أجل البقاء، والتي قد تكون آخر معاركه التي خاضها طيلة حياته المليئة بالحوادث والصراعات.
عندما عاد بوتفليقة من دولة «الإمارات العربية المتحدة» ليترشح للرئاسة بعد أن قرر سلفه ( زروال) التنحي عن الحكم بصفة اختيارية، وجد الدعم والقبول من المؤسسة العسكرية وحزب جبهة التحرير واتحاد العمال الجزائريين. فقد وجدت فيه هذه القوى الرجل المناسب لملء الفراغ، وتحقيق استمرارية النظام، والتصدي لمختلف الأطراف الداعية إلى إحداث تغييرات جوهرية في أساليب إدارة السلطة. والحقيقة أن الرجل يتمتع بكثير من المؤهلات التي تجعل منه رجل دولة، سواء من حيث رصيده التاريخي وتجربته السياسية والدبلوماسية التي اكتسبها في عهد الرئيس بومدين. أو من حيث قدراته الخطابية باللغتين العربية والفرنسية وشبكة العلاقات الدولية الواسعة التي يتمتع بها. وقد ساعدته كل تلك الميزات على شد اهتمام مواطنيه والمتابعين للشأن الجزائري طيلة الأشهر الأولى من حكمه، وذلك من خلال خطبه الجريئة، وملفات الإصلاح التي تبناها، وسياسته التي قامت على الوئام الوطني وساعدته على إحداث القطيعة بين « الجبهة الإسلامية للإنقاذ « وذراعها العسكري وبين بقية الجماعات المسلحة. كما نجح بوتفليقة أيضا في إعادة تنشيط موقع الجزائر على الصعيد الدولي، بعد أن تدهورت مكانتها كثيرا.
صعوبة كسب رهان التغيير في الجزائر
في المقابل، وبعد سنتين من ممارسة السلطة وتقديم الوعود، بدأ الرئيس بوتفليقة يتعرض لانتقادات شديدة وعنيفة من قبل خصومه. وأخذت بعض الصحف المحلية تتحدث عن وجود مسافة بدأت تتسع من جديد بين السلطة وبين جزء مهم من الرأي العام الذي أصبح يطالب بتنفيذ الوعود. لم يكن التغيير سهلا في بلد منهك على جميع الأصعدة. كانت الأوضاع تتطلب تنفيذ إصلاحات جذرية وشاملة، لكن الإرادة السياسية التي كشف عنها بوتفليقة بعد تسلمه الحكم مباشرة اصطدمت بقوى ظاهرة وخفية ليست مستعدة لكي يتحقق التغيير على حسابها أو يمس من مصالحها. ولأن هذه القوى متنفذة إلى درجة جعلت بوتفليقة نفسه يصفها بالمافيا، فقد نجحت في أن تجعل الحكومات المتعاقبة تكاد تتحرك في حلقة مفرغة.
بوتفليقة والجبهات المفتوحة
المشكلة أكثر تعقيدا من ذلك، إذ الكثير من رجال السياسة الجزائريين اختزل الوضع في ثنائية الصراع الصامت بين رئيس يريد الإصلاح وقوى محافظة تدافع بشراسة عن مصالحها. فخلافات الرجل اتسعت لتشمل أحزاب المعارضة الكبرى، وممثلي منطقة القبائل الأمازيغية، وتشمل أيضا قطاع الصحافة الذي عادة ما يحرص كل رجل سياسي يريد تعزيز نفوذه على كسبه لصالحه. لقد أتعبت الصحف المحلية الرئيس الجزائري بشكل جعله في الأخير يرتكب خطأ الدخول معها في معركة كسر العظم، ما أثار استياء جزء مهم من النخب، ودفع بالإدارة الأميركية إلى التعبير عن قلقها.
وبلغت خلافات الرئيس درجة تراجيدية باصطدامه العلني والعنيف برئيس حكومته السابق علي بن فليس الذي تمكنت «جبهة التحرير» تحت قيادته من استرجاع مكانتها السياسية خلال الانتخابات البرلمانية والبلدية الأخيرة. ولم يكتفِ بوتفليقة بإقالة خصمه، بل عمد في خطوة لاحقة إلى عزل ستة من الوزراء المعروفين بعلاقتهم الوثيقة ببن فليس. وهاهم أنصار الرئيس الجزائري يستعدون لتغيير موازين القوى داخل جبهة التحرير، وذلك عن طريق تشكيل هيئة يتولى حاليا رئاستها وزير الخارجية عبدالعزيز بلخادم. وتسعى هذه الهيئة التنسيقية التي تتحدث باسم «حركة تصحيحية « وتلقى كل الدعم من قبل أجهزة الدولة، إلى عقد مؤتمر استثنائي، يتولى الإطاحة ببن فليس، ويلغي كل القرارات التي اتخذها الحزب منذ مؤتمره الثامن الذي عقد في شهر مارس/آذار الماضي، بما في ذلك ترشيح بن فليس للرئاسة القادمة باسم الحزب.
وهكذا وجد الحزب التاريخي الذي قاد الجزائر وحكمها لفترة طويلة يمر بأزمة أخرى عاصفة تنذر بمخاطر كثيرة. فعندما يبلغ الأمر حد استعمال الأسلحة البيضاء بين أبناء الحزب الواحد، ويهدد خصوم الرئيس الجزائري بإمكان اللجوء إلى العصيان والانسحاب من كل هياكل الدولةب قصد إحداث الفراغ السياسي، فإن الأمر يكون تجاوز مسألة التنافس المشروع من أجل الظفر بمنصب الرئاسة، ويخشى أن يكون الوضع مرشحا للدخول في مرحلة قد تشبه في بعض جوانبها ما حصل بين قيادات الثورة من حسم وتصفيات عندما اقتربت لحظة الاستقلال.
الإسلاميون مستفيدون من الصراع
ما لم يقرأ له السياسيون حسابا في الجزائر، أن وضعا كهذا من شأنه أن يساعد «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» على استعادة جزء من عافيتها، فهذا الحزب الذي تشكل ونما بسرعة على إثر حوادث 5 أكتوبر/تشرين الاول 8891، حتى احتل المرتبة الأولى في أول انتخابات ديمقراطية تشهدها البلاد، تلقّى ضربة قوية بعد انتهاجه أسلوب المقاومة المسلحة، فقتل الكثير من كوادره، وتمزق جسمه إلى أجزاء تحتاج إلى وقت طويل حتى تستعيد لحمتها وترابطها. هذا الحزب بدأ يستفيد من الوضع الجديد، سواء بحكم وجود قيادته التاريخية خارج السجن، أو بفضل حال التململ العام نتيجة استمرار معالم الأزمة الاجتماعية والسياسية الشاملة التي تدين لها جبهة الإنقاذ بولادتها في أواخر الثمانينات. ومن المعلومات الرائجة في الجزائر القول إن الرئيس بوتفليقة يحاول أن يستفيد من أصوات أنصار الجبهة الإسلامية. وتربط الأوساط المروجة لهذه الفرضية بين الصراع الدائر حول الرئاسة وبين تمكين الشيخ عباسي مدني من مغادرة البلاد للتداوي في ماليزيا، على رغم اعتراض جزء من الجهات الأمنية والسياسية على ذلك. كما أن مدني يصف بوتفليقة بكونه «الأخ العزيز»، ويجدد النداء إلى وقف العنف، ويعلن أنه يستعد لتقديم مبادرة شاملة لإخراج الجزائر من أزمتها.
يمكن الاعتراض على هذه الفرضية بالإشارة إلى المضايقات الأمنية التي يلقاها الرجل الثاني والأقوى داخل جبهة الإنقاذ الشيخ علي بلحاج. لكن مع احتمال وجود تكتيك متبادل بين الرجلين، كما كان الأمر من قبل، فالمؤكد أن أنصار «الشيخين» بدأوا يتجمعون من جديد لإعادة تنظيم صفوفهم، ويشكلون عنصرا ضاغطا على الحياة السياسية. وإلى جانبهم يقف إسلاميون آخرون لهم أيضا مواقعهم المتقدمة وخططهم للاستفادة من هذا الوضع الجديد. فالشيخ جاب الله يعتبره الكثيرون مرشحا قويا للرئاسة القادمة. وقد يصبح أكثر تهديدا لموازين القوى الراهنة إذا ما تلقى دعما قويا من أنصار جبهة الإنقاذ. كما أن طالب الإبراهيمي الذي فتح حزبه لعدد كبير من الإسلاميين المعتدلين، ومنهم من كانوا في الجبهة الإسلامية، يشكل بدوره قوة صاعدة تفرض على منافسيه أخذها في الاعتبار.
في ضوء كل المعطيات السابقة وغيرها، وفي انتظار الكيفية التي ستتعامل بها المؤسسة العسكرية مع التطورات الراهنة والمحتملة، ندرك لماذا تعتبر الانتخابات الرئاسية القادمة في الجزائر حبلى برهانات مهمة، وقد تسفر عن نتائج مفاجئة، لن تحدث رجة فقط داخل الجزائر وتعيدها من جديد إلى المربع نفسه الذي وجدت نفسها فيه قبل 51 عاما، وإنما قد تكون لها تداعيات واسعة في كامل المنطقة المغاربية والعربية.
العدد 381 - الأحد 21 سبتمبر 2003م الموافق 25 رجب 1424هـ