كثيرون ممن شاهدوا فيلم «كيت كات»، لم يخفوا إعجابهم الشديد بالكم المتزن والمدروس من الكوميديا «الملونة «اذا جاز لي التعبير - في مقابل ما يعرف بالكوميديا» السوداء» - ... والتي حواها الفيلم، يضاف الى ذلك مفاصل كثيرة من حال التناقض في الشخصيات وسلوكاتها المتباينة، وهي سلوكات قادت في نهاية المطاف الى تفجير تلك الكوميديا، وصدم المشاهد بها، وهي صدمة في تسلسل تلك المفارقات وعدم منطقيتها في أحايين كثيرة الا أنها معاشة ومدركة وقائمة في جغرافية انسانية لا يمكن تحديدها، وان بدت لنا تلك الجغرافيا محددة سلفا، في حي من أحياء مصر الفقيرة التي كثيرا ما تكون منجما من البساطة والعفوية والمفارقات وانفتاح الناس على بعضهم بعضا بعيدا عن انتماءاتهم الدينية.
ثمة تشخيص ذكي ونفاذ آسر لنفسيات شخصيات الفيلم استطاع المخرج أن يستدرجها لفعل وقول المسكوت عنه، من خلال مواقف زخر بها دور الشخصية المحورية «محمود عبدالعزيز» أو «الشيخ حسني»، الشيخ الأزهري الذي جنح في مسار حياته ، وعاشها ببوهيمية لا تقبل التأويل ولا تبعث على الحيرة، الا انه ظل محتفظا بلقبه الذي عرف به بوصفه طالبا في الأزهر.
يظل أكثر المشاهد تأثيرا وسحرا ومتاخمة للكوميديا التي أطلقنا عليها صفة «ملونة»، مشهد الشيخ حسني وهو يتحدث عن حلمه بامتلاك دراجة نارية، ولم يكتف بذلك، ليفاجئ سكان الحي الشعبي بمن فيهم جاره المسيحي صاحب الدراجة، بقيادتها على غير هدى وهو الضرير الذي لم يحتج لمن يأخذ بيده لعبور طريق أو الوصول الى احدى جلسات الكيف في أمكنة عشوائية قد تكون كراج سيارة مغلقا.
لقطة الشيخ حسني وهو يقود الدراجة وقد أثار حالا من الفزع والفوضى آخذا في طريقه كل ما استطاعه عماه، من أقفاص الفراخ، الى النسوة اللائي يتكومن في مشهد عبثي كالذي أداه محمود عبدالعزيز، ترمز تلك اللقطة فيما ترمز الى شيء من تطابق الحال العبثي والعشوائي في الجغرافيا مع واقع حال السلوكات ذاتها والتصرف الذي يبديه الإنسان حيال عدد من المواقف. كما تنفي من جهة أخرى حال العمى الذي يعانيه الشيخ حسني باقتحامه عالم المبصرين، عالم يتطلب شحذ الحواس كل الحواس ولا يقبل سهوها أو غيابها ولو لمجرد لحظة، الا انه يمعن في اقتحام ذلك العالم وان على غير هدى.
مشهد آخر لا يقل اثارة ومتعة يكاد يكون قريبا من المشهد الذي ذكرناه ولكن بحمولات أكثر عمقا على مستوى الحوار والأداء، وطبيعة الموقف، مشهد يظهر فيه الشيخ حسني وهو يتطوع ليعبر بشيخ أزهري أحد الشوارع ليكتشف الآخر انه في ضيافة ضرير سيقوده حتما مع نهاية المشهد الى اللامكان ، في ترميز يبدو معقولا، يمكن أن ينطبق على السياسة ومساحة كبيرة من حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية ونحن في غفلة عنها.
كل تلك الرهافة التي تميز بها الشيخ حسني تقودنا الى علاقته بآلة العود التي يحسن استخدامها، ويبدو انها أي الموسيقى منحته ذلك الفضاء العميق على مستوى السخرية وكذلك على مستوى تعاطيه الجاد مع بعض القضايا، ولتنعكس أيضا على علاقته مع ابنه الذي يمثل دوره شريف منير، لتتصاعد تلك العلاقة مع أدائهما معا احدى الأغنيات على متن أحد القوارب، يضاف الى ذلك تلصصه واستراقه السمع أمام احدى الشقق التي تقطنها زوجة جاره في المبنى السكني الذي يقيم فيه، وبإحدى حواسه يكتشف تورطها في علاقة مشبوهة مع مروج مخدرات « نجاح الموجي»، غير أن ذروة الكوميديا الملونة تلك تبدأ ملامحها مع اقتراب نهاية الفيلم في احد مجالس العزاء فبعد أن ينتهي المقرئ من قراءته ينسى احدهم اغلاق الميكرفون، ليعمد الشيخ حسني إلى سرد تاريخ أسود على تضاد مع الألوان التي توزعت خلالها الكوميديا، تاريخ يبدأ بالموجز، وينتهي بالتفصيل الذي يصل الى أسماع الناس في الحي، في ترميز آخر لشياع الفضيحة واعتبارها حقا كما هو الستر حق.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 380 - السبت 20 سبتمبر 2003م الموافق 24 رجب 1424هـ