العدد 378 - الخميس 18 سبتمبر 2003م الموافق 22 رجب 1424هـ

المعتصم: السيف أصدق من الكتب!

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

توفي المأمون في سنة 812 هجرية (338م) وخلفه شقيقه المعتصم. كان المعتصم - كما يقول السيوطي في «تاريخ الخلفاء» - يملك صفات متناقضة، فهو شجاع وصاحب قوة وهمة و«كان عَريّا من العلم» (ص 433). فالمعتصم حاول التشبه بالمأمون ولكنه اختلف عنه في أشياء كثيرة. فالمأمون من أهل القلم والمعتصم من أهل السيف. فهو أسهم في قيادة فتوحات كثيرة فغزا الروم (الأناضول) سنة 322 هـ (738م) «وقد ذلل العدو بالنواحي» كما يقول السيوطي.

نقل الصولي في تاريخه عن المغيرة بن محمد أنه «لم يجتمع الملوك بباب أحد قط اجتماعهم بباب المعتصم، ولا ظفر ملك قط كظفره». ويقال انه أسر ملوك اذربيجان وطبرستان واستبسان والشياصح وفرغانة وطخارستان وكابول. فالمعتصم محارب شرس وكان المأمون يعتمد عليه في عهده في قيادة الجند والدفاع عن الحدود والغزو.

وحين توفي المأمون وقعت مشكلة سياسية تمثلت في تلك الفجوة بين حسنات القوة وسيئات الجهل. فالمعتصم قليل العلم والمعرفة فلجأ الى سياسة البطش ضد معارضيه وكل من يخالف القول «بخلق القرآن».

يقول الذهبي في تاريخه عن المعتصم انه كان «من أعظم الخلفاء (العباسيين) وأهيبهم. لولا ما شان سؤدده بامتحان العلماء بخلق القرآن». ويؤكد السيوطي هذه المسألة في تاريخه اذ تشبه المعتصم بالمأمون كثيرا فسلك ما كان المأمون عليه «وختم به عمره من امتحان الناس بخلق القرآن». وقاسى الناس منه مشقة في ذلك، ويقول السيوطي: «وقتل عليه خلقا من العلماء، وضرب الامام أحمد بن حنبل، وكان ضربه في سنة 022 هجرية (538م)» (ص533).

قوة المعتصم العسكرية وكثرة فتوحاته وغزواته لم تعوض نقص ثقافته وضحالة تفكيره. فالمعتصم اختلف في مسألة الوعي عن والده هارون الرشيد وشقيقه الأمين ثم المأمون. فالثلاثة كانوا على سوية عالية من التفقّه والاطلاع على الفكر والتاريخ والثقافة... بينما المعتصم كان غريبا عن هذه الحقول ولا يعرف سوى لغة القوة وسياسة البطش في العلاقة مع خصومه.

وبسبب نقص ثقافته وادراكه لتعقيدات الأمة وتنوع قواها ومصادرها اضطر المعتصم الى الاعتماد كثيرا على شيوخ المعتزلة لتعويض ذلك النقص مستخدما «السيف» لا «القلم» في الدفاع عن مذهب الاعتزال/ الدولة.

استغل شيوخ المعتزلة نقطة ضعف المعتصم واستفادوا منها للنيل من العلماء والفقهاء والأئمة فاتجهوا نحو المزيد من الاستبداد باسم «العقل» و«العقلانية» فاضطهدوا وظلموا كبار الأئمة وكثيرا من العلماء وحاولوا شراء الذمم واذلال القضاة واخضاعهم لسلطة القوة (دولة المعتصم).

وأدت سياسة البطش والاذلال الى اضعاف المعتصم داخليا واتساع رقعة المعارضة وانتشار المد الأصولي (السلفي) تضامنا مع الأئمة والعلماء.

وبات المعتصم في وضع صعب فهو قوي في الخارج (غزوات وفتوحات) وضعيف في الداخل (مداهمات واعتقالات ومحاكمات) فاضطر أيضا الى الاعتماد على الأتراك لحماية أمن الدولة من المعارضة الأصولية.

يذكر السيوطي عنه أنه كان «يتشبه بملوك الأعاجم» وهو «أول خليفة أدخل الأتراك الديوان» وبلغت «غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفا». ويكرر الذهبي والصولي وكل المؤرخين هذه المعلومات وخصوصا حين تحولت بغداد في عهد المعتصم إلى مدينة لا تطاق بسبب الفوضى والملاحقات الأمنية واتساع رقعة المعارضة وعدم قدرة الدولة على ضبط التوازن بين نمو السكان وارتفاع الحاجات الغذائية والسكنية.

يجمع المؤرخون على أن اعتناء المعتصم «باقتناء الأتراك» أسس مشكلة جديدة للدولة العباسية اذ كانوا - كما يذكر السيوطي - «يؤذون الناس، وضاقت بهم البلد» (ص633)، فاضطر الى ترك بغداد وبنى مدينة جديدة أطلق عليها «سُرَّ من رأى» وهي تعرف الآن باسم «سامراء».

كل هذه التناقضات اجتمعت في عهد المعتصم الذي توفي في سنة 722 هجرية (148م) وترك خلفه مجموعة مشكلات منها ازدياد نفوذ المعتزلة ونجاحها في السيطرة على الدولة واستخدام أدواتها القمعية لملاحقة المعارضة، وازدياد نفوذ الأتراك في أجهزة الدولة وتحديدا في الجيش وقوات الأمن والشرطة، وأخيرا نمو المد الأصولي (الشارع الشعبي) في مواجهة تحكم شيوخ المعتزلة في أجهزة الدولة. وباتت الدولة تعيش حالات من الانقسام في وظائفها. فالترك يسيطرون على الشرطة والجيش والمعتزلة يسيطرون على الديوان وما يتفرع عنه من مؤسسات قضائية وتربوية، وأصبح المعتصم يعيش ما يشبه ازدواجية السلطة. وضمن هذه الأجواء المضطربة يمكن قراءة الجانب السياسي في تاريخ فرق المعتزلة وهو جانب أسهم لاحقا في سقوطها الفكري حين انقلب الزمن عليها.

قبل الانقلاب على المعتزلة شهدت فرقها الكثير من الازدهار في عهد المعتصم فانتشرت مدارسها وتوزع شيوخها ما بين ديوان الدولة ومختلف المناطق والمدن. وبسبب اتساع نشاطها وابتعاد فرقها عن هموم الناس ومشكلاتهم تمزقت أفكارها وتنوعت مدارسها الى درجة يصعب حصرها في دائرة زمنية واحدة. فهناك شيوخ من المعتزلة عاشوا في البصرة وانتقلوا الى بغداد أو سامراء، وهناك من عرف الشهرة في عهد الرشيد والمأمون والمعتصم واستمر الى عهد الواثق. وهناك من ازدهرت مدرسته في عهد المأمون وتفرعت في عهد المعتصم... الى آخره.

إلا أن الجديد في عهد المعتصم ان الدولة فقدت رقابتها على فرق المعتزلة بسبب ضحالة علوم الخليفة وتركيزه على السيف واعتماده على شيوخ الاعتزال في الفقه وعلى الأتراك في الشرطة والأمن. وهذا النوع من الاتكال أفقد الكثير من هيبة السلطة نظرا لتشتت قواها وعدم قدرتها على احتواء تعارضات الأمة في اطار تنظيمي يتبع المرونة. فقوة المعتصم في الغزوات وملاحقة الأعداء تحولت داخليا الى استبداد سياسي أطاح برموز العلم والفقه والاجتهاد. وهذه ثغرة كبيرة انتهت أخيرا الى اتساع الهوة بين «السيف» و«القلم» وكادت أن تزعزع أركان الدولة وتهدّها.

لخص الشاعر أبوتمام (رأس الحداثة في الشعر في أيامه) عهد المعتصم في قصيدة كتبها في مناسبة فتح عمورية يقول مطلعها «السيف أصدق أنباء من الكتب». هذا صحيح مؤقتا وحين تتعرض الأمة لخطر خارجي، فالسيف هنا هو الأقوى. إلا أنه في فترات الارتخاء والرخاء فإن الزمن أقوى من السيف. فالسيف يذهب مع ذهاب الزمن أما الكتاب فإنه يستمر مع الزمن. وهذا بالضبط ما حصل في أيام المعتصم

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 378 - الخميس 18 سبتمبر 2003م الموافق 22 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً