كلما قُتِلُ إنسانٌ في حروب الابتذال المذهبية كَبُرَ مِخْرَزُ الخطر. فالقتيل له امتداد مكاني وبشري، وهو جزء من نظام مُعقّد من المصالح، وبالتالي فإن استهدافه يعني استهدافا للمكان الذي ينتمي إليه، وللبشر الذي تولّد من أصلابهم، وللمصالح التي تورّط معها.
هذه الحروب غير مُكلِفة للعدو. فهو لن يحتاج سوى إلى عمليات بمستوى «مستصغر الشَّرَر» لكي يُوقِد نارا بحجم جهنم. أما بقية أدوات المعركة فسيُوفّرها من سيتقاتلون ذاتهم، بل سيتحمّلون هم بقية النفقات الأخرى من دَمٍ وعِدّة وعتاد.
ليس بالضرورة أن تكون هذه الحروب تمثيلا لِمَشْيَخَة دينية عليا ورعة نزيهة، أو انعكاسا لنصوص (قرآنية/ إنجيليّة/ توراتية) مقدّسة، بقدر ما هي تمثيل لميزان قوى بشرية يُراد لها أن تميل إلى هذه الجهة أو تلك لفرز واقع جديد، ونظام مصالح آخر.
هنا نتساءل: ما الجامع بين النهي عن التمثيل بالكلب العقُور وبين القتل على الهوية المذهبية كما يجري في العراق، مع مَهْرِ الضحايا بجدع أنوفهم وفقء عيونهم، وحزّ رقابهم، وبَقْرِ بطونهم؟!
وقبل ذلك ما الجامع بين نهي نصوص العهد الجديد الإنجيليّة من الاعتداء على الغَيْر ومراعاة الحقوق وبين ما جرى في مذبحة سانت بارتيليمي، ومعارك القرنين السادس عشر والثامن عشر في أوروبا.
وما الجامع بينها وبين ما تقوم به اليوم الجيوش الغربيّة في دول عدّة في المنطقة من عمليات حربية عدوانية تتمّ بمباركة بابويّة تتجلّى عند توديع الألوية المنقولة جوا، ثم نراها مرة أخرى في مراسم التأبين بمدافن آرلنجتون.
في تاريخنا الإسلامي المكتوب نقرأ بأسف ما عَمِلَته الدولتان الأُموّية والعبّاسيّة بحقّ خصومها من العلويين وغيرهم من جرائم أنسَت مَنْ قَبلها وأتعَبت مَنْ بَعدها، حتى أصبحت محلّ تندّر من قِبَل المؤرّخين والباحثين.
لم يكن حينها الأمر يأخذ طابع التمذهب بشكل واضح، بقدر اكتنازه فَوْرة سياسية مضادة بحقّ الخصوم في المعارضات التي نشأت في العراق والحجاز، على اعتبار أن العقد الاجتماعي والسياسي لايزال قريبا من عصور النزال الأولى.
وللتدليل على أن الأمر كان لا يحمل سوى الطّمع في النفوذ، نقرأ كيف امتدت المعارك باتّجاه ضرب جهابذة الفكر العظام. فالعلماء الذين دعوا إلى الفلسفة وعلوم المنطق والإلهيات دفعوا ضريبة مُجزِية نظير تبنّيهم لتلك العلوم.
فمن حَمَلَ لواء المعارضة ضد حاملي هذه الأفكار كان يخشى التقابل والتعارض بين العلوم النقليّة ومنطق البرهان، وانتصار الثاني على الأول كما حدث لابن الصّلاح وموقفه من الفلسفة التي اعتبرها «أسّ السّفه والانحلال والضلال والزّيغ والزندقة».
في أوروبا لم يكن الأمر أسرّ، فبين القرنين السادس عشر والثامن عشر شَهِدت الأرض الأوروبية أعنف حروبها الطائفية، ودَفَع المذهب البروتستانتي أثمانا باهظة نتيجة لتحدّي البابوية الكاثوليكية.
هنا يُصبح الفارق بين الحرص على الله أو على القيصر جدليا. فمن غير المعقول أن يُصبح المتدينون أشدّ تدينا ممن وهبهم دينهم، ونهاهم عن فِعل ما يفعلون اليوم وأمس. لكن من المعقول جدا أن يكونوا (وغيرهم طبعا) حريصين على نيل المُلْك ما دام يُوفّر لهم حظوة في القوة والنفوذ.
ولأن الأمر هكذا فلا يُمكن الفصل إذا بين ما جرى ويجري حروب مذهبية وطائفية وبين طبيعة الصراع الدولي القائم على التدافع وزحزحة المصالح. فالصراع لا يكون تقابليا مباشرا بين خصمين متناحرين.
فالأدوات تختلف. والمعارك البديلة مُجرّبة وناجعة. وإنهاك الدول قد يكون بديمغرافيتها واقتصادها وحوافّها، ومواطن الضعف فيها. وكم انهارت دولٌ وانهَدَّت بدون جيوش غازية. هذه حقيقة شاخصة.
صحيح أن حضور هذه الحروب واشتعالها نابع بالأساس من وجود كوامن ذاتية، لكن يجب الإيمان أيضا بأن من يُشعلها ويُحيّن احترابها قد يأتي من خارج الحدود حين يُباعد الأنوية الجامعة لصالح أخرى متنافرة.
غاية الأمر ومنتهاه أن معارك بهذا النوع لا تُمثّل دينا أبدا. هي تمثيل لقوى على الأرض تستغلّ حمل راية الدفاع عن الدين/ المذهب لكنها لا تبتغي سوى أمور الرئاسة والنفوذ والتسيّد لإبقاء الضعيف ضعيفا والقوي قويا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2619 - الجمعة 06 نوفمبر 2009م الموافق 19 ذي القعدة 1430هـ
البصمات واضحة
حتى لو لم يكن العدو هو من يقف وراء هذه الحروب فانه بالتاكيد لن يسعى لأن يوقفها لانه مستفيد في كل الاحوال
شكرا للكاتب
عبد علي عبا س البصري
لو علم الناس مقالتك لما عاش ظالم لا من أول ولا من الحين . ولاكن وللاسف قتل الالوف من اجل قيصر .!!!!!!!!