منذ مطلع هذا الشهر بدأت أسعار الذهب بالتململ، آخذة في الارتفاع لتصل قبل أيام، إلى معدلات قياسية، حيث تجاوز سعر «الأونصة» الواحدة 1090 دولارا، وهذه هي المرة الأولى التي تصل فيها إلى مثل هذا السقف. قبل ذلك، وتحديدا في سبتمبر/ أيلول 2009 ، شهدنا الحالة ذاتها، وإن كانت بأسعار أدنى؛ ما دفع المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي حينها، إلى بيع ما يقرب من 403.3 أطنان من مخزونه من الذهب، كي يتمكن - كما أجمعت عليه العديد من بيوت المال - من «تعزيز احتياطياته النقدية؛ ما يعزز قدراته على إقراض الدول النامية لمواجهة آثار الأزمة المالية العالمية». يقف وراء هذا الارتفاع في أسعار الذهب عاملان أساسيان: الأول هو التراجع المستمر في سعر صرف الدولار الأميركي، والثاني هو الارتفاع في أسعار النفط.
في البدء لابد من التأكيد على أن هناك سببا مباشرا وراء ارتفاع أسعار الذهب اليوم، وهو قلة المعروض من المعدن، مصدره تردد بعض الدول المنتجة في طرح إنتاجها في الأسواق، أدى بدوره إلى نقص الكمية التي تحتاجها تلك الأسواق. هذا الأمر هو وراء زيادة الأسعار كما تشير إليه نظرية «العرض والطلب». بالطبع يعود السبب الرئيسي وراء اتجاه الدول المنتجة للذهب إلى تخزينه عوضا عن عرضه للبيع، إلى تردي القدرة الشرائية في أسواقه من جراء الأزمة الاقتصادية العالمية التي قلّصت من نزوع المستهلك إلى اقتناء هذا المعدن النفيس، سواء على مستوى المستهلك الفرد، أو مصانع الإنتاج. ضاعف من حدة تلك الأزمة عدم الاستقرار السياسي وتفجر الحروب في العديد من مناطق العالم، وجميعها عوامل تعزز من تقليص الطلب على الذهب.
من جانب آخر وفيما يتعلق بعلاقة أسعار الذهب بالنفط والدولار لن يكون المراقب بحاجة إلى الاستعانة بأدوات تحليل معقدة كي يكتشف العلاقة بين زوايا المثلث الثلاث: الذهب، النفط، الدولار الأميركي. بالنسبة إلى العلاقة مع الدولار، تكفي الإشارة إلى تراجع أسعار الذهب بعد يوم واحد من ارتفاعها القياسي لحظة الاستقرار المؤقت الذي عرفته أسعار الدولار.
لكن من أجل تبسيط تلك العلاقة المعقدة، نركز على تسليط الأضواء على علاقة الذهب بالنفط، ففي يومنا هذا ينذر بشكل عام - وليس الذهب بحالة شاذة - الحديث عن بضاعة ذات أهمية سوقية عالمية لا يدخل النفط في تحديد سعرها، سواء في عناصر إنتاجها، أو كلفة نقل تلك العناصر، ناهيك عن استخدامات النفط ومشتقاته في أوجه مختلفة من تشغيل المصانع المنتجة من تدفئة وإنارة. هذا على صعيد حصة النفط. أما بالنسبة إلى الذهب، فمن المعروف أن صناعة الذهب منخرطة بشكل مباشر في أسعار إصدار النقود، وقواعد إصدارها، ناهيك عن علاقنها المباشرة بأسباب التضخم.
على أن أكثر الأمثلة دلالة على عمق تلك العلاقة هو ما شهدناه خلال السنتين الماضيتين عندما ارتفعت أسعار النفط إلى سقفها، فمسّ سعر البرميل 150 دولارا، ثم تراجع كي يصل إلى نحو 60 دولارا للبرميل، لاحظنا حينها العلاقة العكسية بين أسعار البضاعتين، فكلما ارتفعت أسعار النفط انخفضت أسعار الذهب، والعكس صحيح تماما. تفسير ذلك أنه حين تنخفض أسعار النفط، يلجأ المضاربون حينها إلى الاستعانة بالصكوك الذهبية فيزداد الإقبال عليها فترتفع أسعارها. الأمر ذاته ينقلب حين ترتفع أسعار برميل النفط، يظل اللاعبون في أسواق النفط في أماكنهم فيتراجع الطلب على الذهب، الأمر الذي يقود إلى انخفاض أسعاره. مرة أخرى هنا نستعين بنظرية «العرض والطلب» لتفسير علاقة التبادل العكسي بين البضاعتين.
الأمر ذاته ينطبق على العلاقة بين النفط والدولار، فبما أن النفط يُسعَّر بالدولار، لا يجد منتجو النفط سبيلا لتعويض خسائرهم من انخفاض أسعار الدولار مقابل العملات أفضل من رفع أسعاره، والعكس صحيح، فعندما ترتفع أسعار الدولار لا يجد منتجو النفط أية إشكالية في الإبقاء على أسعار البرميل، بل وحتى خفضها إذا تطلب الأمر.
أسوأ ما في الأمر أن الأسواق العربية، والحديث هنا عن الدول وليس الأفراد، تتأثر سلبا، وبشكل شبه مطلق، من جراء تلك العلاقة، نظرا إلى كون دورها محصورا في بيع النفط الخام فحسب. فهي لا تملك التحكم في الدولار، ومن ثم فهي غير قادرة على الاستفادة من انعكاساته على أسعار الذهب، وفي الوقت ذاته، هي لا تزال غير قادرة، بفعل عوامل سياسية أكثر منها اقتصادية، على فك ارتباطها، على صعيد أسعار النفط أو أسعار العملات من الدولار؛ ما يجعلها، في أغلب الأحيان في صف الخاسر، عوضا عن الرابح عندما تؤخذ محصلة تلك العلاقة المتبادلة بين النفط والذهب. فعندما تتراجع أسعار الدولار، تنخفض معه دخول الدول العربية من النفط، وترتفع معه قيمة إنفاقها على ما تقتنيه من ذهب. لذا وبغض النظر عن الارتفاعات في أسعار النفط، تجد الدول العربية المنتجة نفسها مجبرة على تحمل الخسائر الناتجة من تلك العلاقة النفطية بين الدولار والذهب.
من هنا فلربما حان الوقت اليوم كي تقف الدول العربية أمام العلاقة التي تربط بين عملاتها والدولار أولا، وبين النفط والدولار ثانيا، كي تستطيع أن تقلص، إذ ربما من الصعوبة بمكان أن تنهي، أي إنهاك لدخولها جراء الارتفاع في أسعار النفط بفضل ارتفاع أسعار الذهب.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2618 - الخميس 05 نوفمبر 2009م الموافق 18 ذي القعدة 1430هـ
بارك الله فيكم وجزاكم الله خير وجعلكم ممن ينفع الناس بعلمه ورزقكم الله الرزق الطيب الحلال وهل هذا التناسب العكسي دائما وهذا تحليل كم روعه وبسيط جدا حيث يمكن اي شخص من فهم الموضوع