وصل خبرُ سقوط سجن الباستيل إبّان الثورة الفرنسية إلى منطقة بيرون (التي تبعد عن باريس بـ 133 كم فقط) بعد ثمانية وعشرين يوما. ووصل خبر نكبة فلسطين في العام 1948 إلى الشعب المغربي بعد أربعة أشهر!
نحن اليوم نسمع ما يجري في وول ستريت من معارك ماليّة في أقلّ من دقيقة واحدة. وكنا قد سَمِعنا عن ضربة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول بعد دقائق. وسمِعنا عن ضرب العاصمة العراقية (بغداد) في 20 مارس/ آذار 2003 بعد ثلاث عشرة دقيقة فقط.
الفارق أنّ العالم القديم كان صغيرا لكنه كان كبيرا لانعدام وسائل الاتصال فيه. واليوم أضحى العالم كبيرا لكنه أصبح صغيرا جدا بسبب قوّة وسائل الاتصال فيه. لكن الإشكال أن ناس العالمَيْن ودُوَلِه مختلفون جدا.
قبل مئتين وثلاثين سنة كان جنود الثورة الفرنسية (حسب قول المؤرّخ الكبير هوبْزْباوْم) يمشون بكامل عدّتهم وعتادهم أيام الحروب من دون توقّف طوال أسبوع كامل بمعدّل ثلاثين ميلا في اليوم.
أما في عصرنا الحاضر فإن الجندي الغربي (الكندي/ الإيطالي مثالا) مُستعد لأن يدفع رِشا مالية لخصمه (مقاتلي طالبان) لكي يستطيع أن يعبر مساحة جغرافية بحجم منطقة سوروبي الأفغانية!
قبل واحد وستين عاما كان الجندي العربي لا يملك سوى بنادق بدائية وقوات صغيرة غير متماسكة، لكنه حارَب في النكبة واستمرّ حتى تدخُّل القوات الدولية وفرض الهدنة الأولى والثانية، ثم قاوم في العام 1956 وحارب في العام 1967 والعام 1973 أما اليوم فإن الجندي العربي رغم أنه يملك الأواكس والـ إف 16 لكنه داخل الثكنات!
ما يخشاه المرء في هذه الحلقة الزمنية البائسة أن يضيع تاريخنا القريب ليُصبح بعيدا عن الرؤية. اليوم قد أسمع مُسِنّا فلسطينيا يخرج في إحدى الفضائيات ويقول إنه هُجِّرَ من يافا (وآخر من حيفا) قبل ستين عاما.
إذا استمرّ الحال على ما هو عليه فإنه وبعد خمسين عاما سيُقال بأن هؤلاء هُجِّرُوا من فلسطين. وكلما تقادم الزمن وبَعُدت الفجوة. سيُقال بأن أجدادنا كانوا مُهجّرين. ثم سيقال بأن شعبا كان يسكن فلسطين هُجّر من أرضه قَسْرا. وهكذا تبتعد الصورة سنة بعد أخرى حتى نشهد تاريخا مُجوّفا ومركونا بصمت كامل.
كلّ شيء تبدّل من حولنا. حتى منطق مواصفات العدو تغيّرت. في السابق يُصبح العدو عدوا إن شَهَرَ عليّ سيفا وقتَل منّي ولدا وانتهكَ عندي حرمة في أرض أو عرض. أما اليوم فلا. قد يُصبح من يُقاتل معي أشدّ خطورة من عدوّي عليّ. إنه خللٌ في التفكير.
طيلة سنين خَلَت كانت الشعارات التي تحملها الجماعات الفلسطينية المُسلّحة (وخصوصا حركة حماس) فيما يخصّ موضوع النضال ضد العدو الصهيوني محلّ تهكّم لـ «ديماغوجيتها». كنّا نحلم أن يأتي من هُم خارج هذه الجماعات ليقولوا إن هذا صحيح.
وعندما ظَهَرَ علمانيون عرب وأمثالهم من الغرب يقولون إن ما تُردّده «حماس» صواب وهو أقلّ من المطلوب (حتى) قِيْل بأن أولئك العلمانيين وأغيار الدين يسيرون في الفلك السوري الإيراني، أو أنهم مأجورون لإمارة الظلام في غزّة! إنه حقا هراء خالص.
اليوم يُقال بأن المفكر العربي الفلسطيني المسيحي القومي عزمي بشارة والكاتب الناصري القومي محمد حسنين هيكل وحتى القاضي اليهودي ريتشارد غولدستون، ومعه المنظّمات الحقوقية العالمية (اليهودية منها أو المسيحية) هم عملاء لجغرافيا سياسية معيّنة (المقصود هنا سورية وإيران). الأمر يبدو غريبا حقا.
لا يُمكن أن تُدار معارك الدول بهذا النوع من الابتذال السياسي. وإلاّ فلا لوم إن عُلِّقت مشاكلنا من دون إجابات وحلحلة حتى يوم الدين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2617 - الأربعاء 04 نوفمبر 2009م الموافق 17 ذي القعدة 1430هـ
الخيانة
لم تشهد حركات التحرير العالمية حركة قامت باعطاء المحتل شرعية كما تفعل السلطة الفلسطينية مع اسرائيل وهنا المصاب والمصيبة