العدد 377 - الأربعاء 17 سبتمبر 2003م الموافق 21 رجب 1424هـ

بعد أربعين عاما... يظل «الخان» عيونا

الوسط - غسان الشهابي 

تحديث: 12 مايو 2017

إذا أحب أحدكم أن يرى طفلا في السبعين من عمره، فلينظر إلى عبدالله الخان. الرجل الذي أقفل في شهر أغسطس/آب الماضي باب عقده السادس ليدخل في السبعين من العمر، لايزال قلبه أخضر كالطفل، ولايزال «يطمح»، في حين أن العدد الأكبر من مجايليه ركنوا إلى الدعة، واستكانوا إلى فقاعات الذكريات، ينفخونها ويُضفون عليها غير قليل من المبالغة، مستغلين قلة الشهود، وتواطؤ بعضهم على الكذب.

الخان، ابن الحالة الذي درجت عيناه على الرؤية في الغرفة المعتمة Dark room يراقب والده ويساعده مجبرا على تحميض الأفلام وطباعة الصور، عرفت يداه الصغيرتان عذبات الأحماض، ورهافة الطباعة، وتمرست عيناه الحادتان متابعة المشاهد، ذاك الذي لا يصوره بكاميرته، يختزنه في ذاكرته... الخان اليوم جزء من التاريخ الشفاهي الذي لم يُكتب، عن البحرين وتقلبات رجالاتها، وتحولات أمزجتها، وحتى تغيير ألقاب بعض أسرها.

لا يمكن أن يقال إن الخان «أفضل» مصور في البحرين، ولا هو حتى يقول هذا الكلام، إذ إنه من الجرأة والثقة أن يقول لحسين المحروس (): «لا أجيد كل أنواع التصوير الفوتوغرافي، لم أفلح في تصوير البورتريه أبدا...»، في الوقت الذي يتبجح مصورون آخرون لم يبلغوا معشار ما لدى الخان من فن وتجربة بالقول إن المعارض كانت ستفشل لولا مشاركاتهم، وإن المسابقات كانت ضعيفة لأنهم لم يشاركوا فيها.

يظل يبتسم، وهو يقول: «غلطة حياتي أنني دخلت التجارة من باب التصوير... استبدلت الذي أدنى بالذي هو خير... لقد حطمتني المصارف والقروض التي استوجبت تأسيس مشروعي التجاري... في حياتي العملية أجبرت على ركوب «أجياب» الشرطة، وأوقفت مرات ومرات لأنني مصور، وكنت استمتع حتى في هذه اللحظات العصيبة، لأنني كنت سأتعامل في النهاية مع ضابط لن يرى في التصوير جريمة، وسيعرفني... ولكني نقلت في سيارة إسعاف قبل شهرين لأنني أجهل لغة المصارف والأرقام المصمتة التي لا تعرف الرحمة، ولا تتلمس الفن».

في معرضه الشخصي، جلس يراقب الزائرين، ليقول إنه شعر بأن هناك من لايزال يحبه، ويهتم بأمره. رأى الناس يبحثون عن أنفسهم في صوره، هناك من لامه لأنه لم يعرض أشخاصا أو أماكن قديمة كان قد صورها، وهناك من كان يتأمل الصور بشكل دقيق وناقد. وتظل مشروعات الكتب الفوتوغرافية حلما مشوشا في تفكيره، فالرجل يمتلك حوالي مليون سلبية Negative، ولكنه لا يحلم أن يحولها إلى مشروعات. يعتقد من لا يعرفه أنه يراوغ في التصريح بما قد يفعله بهذه السلبيات في المستقبل، ولكنه ربما لم يحدد موقفه منها.

هذه السلبيات والصور تكمل زمانا امتد بعيدا، منذ والده إلى اليوم من الصور، هناك ما يجدي وما لا يجدي منها، ولكنها في مجملها تقول إن بحرين الخان محفوظة في هذه الأشرطة البلاستيكية.

عندما اشترى له والده ذات عام كاميرا صغيرة من متجر يعقوبي، شعر أنه بدأ يملك قراره، وأنه على خطى والده الذي أتى من الهند محملا بصناعات ثلاث: صناعة المرايا، التصوير، و«شعر البنات»، فاستقر والده على التصوير الذي كان مفتقدا في البحرين آنذاك، واخترع جهازا من المعدن يقطر الماء ليغدو ماء عذبا يمكن أن تمتزج به أحماض تظهير الأفلام، وهذا ما جعل تشارلز بلغريف يغير على بيت والده ذات عصر بوشاية أن والده يقطر الخمر.

بعفويته المحببة يقول: «عندما علم بلغريف بأن والدي مصور، اتفق معه على أن يرسل إليه صور المجرمين لطباعتها بدلا من طباعتها في البصرة، فكنا نعرف المجرمين قبل أن يعرف أهاليهم بهم... حتى أن صورة أحد أقاربي كانت من بينهم ذات مرة إذ اتهم بأنه يخالف التسعيرة في سنوات القحط، فكنا نعلم به قبل أن يعلم والده بذلك».

هذه الكاميرا الصغيرة كانت بداية انطلاق الخان في عالم التصوير والنشر، إذ إن عطبا أصاب هذه الكاميرا، وكان في بداية عمله في شركة النفط (بابكو)، فأخذها إلى مدرسه الذي قال له إنه سيصلحها، وعندما حل الصيف خشي الخان أن يسافر المدرس المصري إلى بلده ويبقى هو من غير كاميرا حتى تفتح المدارس، فذهب ورفيق دربه عبدالله أبوالفتح، فقال له المدرس الذي كان سيسافر في اليوم التالي أنه أصلح الكاميرا ولكنه لايزال غير متأكد منها، يقول الخان: «كنت لاأزال أتحدث إلى المدرس والكاميرا نصفها في يده، ويدي على طرفها الآخر، وإذا بنا نسمع أن حريقا شب في (فريج لبنان)... خطفت الكاميرا من يده حتى من دون أن أشكره أو أودعه، وركضت أصور الحريق الكبير، وأنفقت فيلمين في ذلك... لم أدرك أن الكاميرا لاتزال معطوبة، وأنها لا تطوي الفيلم بالشكل المطلوب... فأخذت الفيلمين إلى الشركة لأظهرهما، وكنت وجلا من أن يراني المسئول الأجنبي فيتهمني باستغلال العمل في التصوير الخاص. انتظرت حتى قرب يوم العمل من الانتهاء، فظهرت الفيلمين، وخبأتهما انتظارا لـ «البوري» ليصيح معلنا انتهاء اليوم، فإذا بي أسمع مسئولا أميركيّا يسأل عن حريق كبير حدث بالأمس والحكومة مهتمة به، ولم يصوره أحد، فقلت له إنني صورت هذا المشهد، ولكني وجدت أن الصور قد تشابكت في شريط طويل وكأنه صورة بانورامية متتالية، ونشرت على الصفحة الأولى من نشرة «النجمة» التي كانت تصدرها الشركة، وكتب تحتها (تصوير عبدالله الخان)... هل لك أن تتخيل مقدار الفخر الذي شعرت به؟».

«والدي صور الملك عبدالعزيز عندما زار البحرين، ووقف هو والمغفور له الشيخ حمد بن عيسى في قصر الشيخ حمد في القضيبية على السلم المزدوج... ظلت هذه الصورة تؤشر على جمال العلاقة بين البلدين... وعندما وقف جلالة الملك مع الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في قصر القضيبية ليعيد التاريخ نفسه، ظننت أنني من سأدعى إلى تصوير هذه اللحظة التاريخية، إكراما لوالدي، ولكنهم استبدلوني بـ (كاميرات) أخرى».

ويواصل: «منذ المراحل الأخيرة في الابتدائية العام 0591 كنت أصور الطلبة في رحلاتهم والمناشط المدرسية المختلفة وأضحى المقابل مصدر دخل لي ساعدني كثيرا في تدبير اموري. أما في المرحلة الثانوية العام 3591 فقد لاحظ مدرس انجليزي معار من قبل (بابكو) للحكومة نشاطي واهتمامي بالتصوير وقد ساعدني ورتب لي لتصوير مشاهد عن (بابكو) ومناطق مختلفة في البحرين وكانوا يعطوني في المقابل عشر روبيات عن كل فيلم. ولابد لي أن أذكر أنني خلال الخمسينات كنت اتعاون مع بعض الصحف بتزويدها بالصور التي كانت عبارة عن حوادث السيارات، الحرائق، المناظر الطبيعية والنشاطات الرياضية والاجتماعية وذلك بمقابل يتراوح ما بين 5 و03 روبية للصورة التي يتم نشرها في الصحف مثل «Gulf Time»، «القافلة»، «الخميلة»، «الميزان»، «الشعلة» (عدد واحد فقط)، «مجلة البحرين» و«المجتمع الجديد».

أذكر عندما كنت أصور في إحدى المرات جسر المحرق قبض علي شرطي وأخذني إلى مكتب بلغريف وسألني ماذا كنت تفعل؟ وعرف أنني مصور، فاستعانت بي حكومة بلغريف و(بابكو) في مجال التصوير. وكان موظف الحكومة أحمد عثمان الزياني يطلب مني تصوير مناطق سكنية مختلفة وكنت أحصل في المقابل على عشر روبيات عن كل فيلم وكان ذلك فرصة طيبة لزيادة دخلي مع تعدد المصادر. في العام 5591 كان هناك صحافي مصري اسمه يني بشاي، عرفني من خلال علاقته بمدير الثانوية المصري الجنسية وكلفني بالتصوير لصحيفة «نجمة بابكو» وقد حصلت على مبلغ محترم نظير ذلك ساعدني كثيرا لكوني طالبا وكانت هذه بداية الانطلاق مع (بابكو).

يتشبث الخان بتلابيب الحلم، يرى أن المصور لا قيمة كبيرة له في عيون أبناء مجتمعه، ولكنه يشعر أن ثمة خيرا في ذائقة الناس، علها تصغي ذات يوم إلى ما يعطيها المصور من جماليات غير مدركة في حياتهم، فهناك قوى رسمية أو مجتمعية تحاول دائما أن تشغب على المصور، ولكنهم إن افتقدوا الصورة ندموا ويكون الوقت قد تأخر حينها «عندما علمت بأن جلالة الملك سيزور المحرق، انتقيت أفضل موقع على الجسر وحضرت نفسي بشكل جيد حتى أسجل الزيارة لحظة بلحظة، فإذا بأحد رجال الأمن ينهرني ويمنعني من التصوير، حاولت مجادلته، إنها لحظة جميلة ونادرة كيف يمكنني أن أتخلى عنها، ولكنه كان يعمل على موجة أخرى محشوة بالأوامر والنواهي، لم تكن هي اللغة نفسها التي اعتمدها... في ذلك اليوم كرهت الصندوق الأسود، كرهت التصوير، وأحسست بإذلال لأنه بعد كل هذا التاريخ أجدني لا أستطيع أن التقط صورة في بلدي».

أخذ يتفحص بطاقتين، إحداهما موقعة من رئيس الشرطة في الستينات «مستر بل»، وأخرى موقعة من مسئول الإعلام في البحرين آنذاك، الأولى صدرت بناء على توجيه من المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، عندما شكا له الخان الحال مع التصوير، فوجه بإصدار بطاقة تمكنه من دخول كل مكان في البحرين من دون ممانعة، كتب على البطاقة رقم (1)... يبتسم إذ التهم «أشباه المصورين» المصور رقم (1)، كما تلتهم الأرض كتب التاريخ.

يقول: «أجهل كيف صار التصوير بهذا الرخص وهذه الاستباحة... حتى بالهاتف يمكنك أن تلتقط صورا، ومحت الكاميرات الرقمية المسافة بين المصور الفنان وذاك الدخيل على هذا الفن... لا أحب التصوير السريع والرقمي ولا أتذوقه، كما لا أتذوق الوجبات السريعة... أحب الخبز البحريني... ولو امتزج بالعرق».

بعد أكثر من أربعين عاما، يقيم الخان معرضه الأول للت••وير الفوتوغرافي، «هل هذا المعرض هو المنديل الأبيض الذي تلوح به لتقول وداعا للتصوير؟» سألته، فيرد بحماس: «بالعكس، إنه بداية جديدة لي، أن أعود إلى التصوير والفن، وأطلق التجارة والأرقام... لم يبقَ لي من العمر كثيرا حتى أنفقه في دهاليز المصارف... أريد أن أتصالح مع التصوير...أتصالح مع نفسي».

حسين المحروس كتب جزءا من السيرة الذاتية لعبدالله الخان في كتيب بعنوان «الضوء عيون» صدر متزامنا مع المعرض الشخصي للمصو





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً