العدد 375 - الإثنين 15 سبتمبر 2003م الموافق 19 رجب 1424هـ

هل «ينتقل» جمال مبارك من «الحزب» إلى الرئاسة؟

القاهرة 3002/ 5002 (الحلقة الرابعة)

مصطفى الحسيني comments [at] alwasatnews.com

في الأيام السابقة على اندلاع الحرب على العراق، بدأت شوارع القاهرة تشهد مظاهرات اختلطت فيها النداءات والهتافات ضد الحرب وضد أميركا و«إسرائيل» مع عبارات التضامن مع الشعب العراقي التي تداخلت معها هتافات تشيد بصدام حسين. كانت الشعارات سياسية: قومية ووطنية إلى الشعارات المنادية بالديمقراطية الداعية إلى الغاء حال الطوارئ المخيمة على البلاد منذ اغتيال الرئيس أنور السادات في 1891.

في الجامعات كانت الصورة على قدر من الاختلاف. كانت الشعارات السياسية تتوازى وتتمايز مع هتافات بعض الجماعات السياسية الاسلامية التي تشخص الحرب الوشيكة على أنها «حرب صليبية ضد الإسلام»، إلى ما يطلقه بعضهم من شعارات ضد اليهود من قبيل «خيبر خيبر يا يهود... جيش محمد سوف يعود». السلطات لا تسمح لمظاهرات طلاب الجامعات بالخروج من حرمها وأحبطت قوات «الأمن المركزي» عدة محاولات لخرق هذه القاعدة.

القاهرة - مصطفى الحسيني

لكن الذي استجد في هذه المظاهرات هو، من ناحية، مشاركة أعضاء هيئات التدريس فيها، بل والتخطيط لها وتنظيمها. من ناحية أخرى تميزت بظهور اتجاه قوي في بعض أوساط الاسلاميين للاعتراف بأطراف أخرى كانت تظهر لها العداء أو تنكرها، مثل الشيوعيين ومثل الناصريين الذين درج الاسلاميون على اعتبار أن لهم لديهم ثأرا، على رغم أن جماعة «الإخوان المسلمين» قبلت على مدى ما يزيد على العقد الأخير توقيع بيانات مشتركة مع قوى سياسية أخرى من بينها الشيوعيون والناصريون. في واحد من المؤتمرات الحاشدة التي شهدتها جامعة القاهرة بمشاركة من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، غلبت على الحشد الشعارات التقليدية للإسلاميين عن الحرب الصليبية وضد اليهود، إلى أن تحدثت ضدها بوضوح الشخصية الاسلامية المعروفة أستاذة العلوم السياسية هبة رؤوف. ملخص ما قالته هبة رؤوف انه لا يجوز تصوير الحرب بأنها إسلامية - مسيحية لأن أكبر وأقوى ما تحرك ضدها من مظاهرات قام بها مسيحيون يعدون بمئات الألوف في مدن وعواصم مسيحية. كما انه لا يجوز وصف الأميركيين بأنهم جبناء لأن ما جرى في أميركا من مظاهرات ضد الحرب أثبت أن في أميركا مئات الألوف من الشجعان الذين تحركوا في مواجهة حكومتهم ضد الحرب.

كما اعترضت على ما أطلقه بعض القوميين واليساريين من هتافات تشيد بصدام حسين وبعض أركان حكمه قائلة «ان الأفراد جميعا متساوون في القيمة وفي العزة».

غياب نقابات العمال

مع بدء الحرب اتسعت المظاهرات وانتشرت إلى مدن أخرى غير القاهرة، عواصم محافظات تضم جامعات اقليمية، غالبية المتظاهرين طلاب جامعات. لكن النقابات المهنية - الأطباء والمهندسين والمحامين والصحافيين وغيرها - شاركت أيضا في حركة الاعتراض على الحرب وإن يكن بأساليب هادئة مثل إصدار البيانات وتنظيم اعتصامات رمزية داخل مقراتها.

كان ملحوظا أيضا غياب النقابات العمالية الكامل عن حركة الاعتراض. لكن الغريب أن الغياب لم يلفت الأنظار ولم يستدرج تعليقا، حتى من صحف المعارضة. قد يقدم حال هذه النقابات تفسيرا لهذا الغياب. فهي ما بين السيطرة الحكومية المحكمة إذ تتولى مراكز القيادة العناصر ذاتها التي اختارتها أجهزة الأمن منذ ما بين عقدين وثلاثة عقود مع أن معظمهم قد خرج من سلك العمل إلى دائرة التقاعد. وما بين الوجود الرسمي لمكاتب «مباحث أمن الدولة» في مواقع العمل وفي مناطق التجمعات العمالية والتي تعمل بيقظة ملحوظة على تباين واضح مع ضعف الكفاءة الشائع في مؤسسات الدولة. وما بين استغراق العمال في معالجة أوضاعهم الخاصة بعدما أدت إليه عمليات «خصخصة» الاقتصاد من فقدان حوالي 002 ألف عامل وظائفهم حتى نهاية العام 0002.

على رغم توسع المظاهرات وانتشارها، كان حجمها أقل من ما يتوقع قياسا بحجم البلاد بما تتميز به العاصمة من كثافة سكانية. كما لاحظ من راقبوها ومنهم كاتب هذا التحقيق، أنها لم تجذب إلا أعدادا ضئيلة خارج نطاق الدوائر التي نظمتها. ربما يرجع بعض من ذلك إلى المركز المختار لتجمعها - ميدان التحرير وسط المدينة الذي تتوزع حوله معظم الوزارات والإدارات الحكومية وكذلك أهم السفارات الأجنبية - الاميركية والبريطانية - اللتين كانت المـظاهرات توجه رسائلها إليهما - كانت قوات الأمن تنشط منذ الصباح الباكر لإغلاق الشوارع المؤدية إلى ميدان التحرير، كما أغلقت الشوارع المؤدية إلى حي «غاردن سيتي» إذ مقر السفارتين المرموقتين.

إحباط اقتحام قلب المدينة

انتظر المراقبون مظاهرة مختلفة كان مقررا خروجها، يشير خط سيرها الى اختبار مدى قدرة المظاهرات ومنظميها على اجتذاب الناس. كانت المظاهرة مقررة بحكم أنها كانت موضوع نزاع قضائي ممتد بين الداعي الى تنظيمها وبين السلطات. انتهى بحكم قضائي نهائي يبيح المظاهرة اقرارا لـ «حق المواطنين في التظاهر السلمي». وبحسب خط السير الذي تقدم به المنظم الى سلطات الأمن عندما طلب إذنا بها. كان موضوع المظاهرة عندئذ هو التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية، لكن الزمن الذي استغرقته مماحكات الحكومة امام القضاء فرضت موضوعا آخر اتخذ مركز الأولوية هو الحرب على العراق. منظم المظاهرة هو عبدالمحسن حمودة الذي يتجاوز عمره سبعين عاما، وهو من قدامى «الطليعة الوفدية» - الجناح اليساري في حزب الوفد (القديم) سبق ان حصل على حكم قضائي بتعيينه «حارسا قضائيا» على نقابة المهندسين منعا لوقوعها تحت سيطرة الحكومة التي كانت حلت مجلسها الذي كان تحت سيطرة ائتلاف من قوى اسلامية.

كان خط السير المرسوم للمظاهرة أقرب الى ان يكون خطة لاقتحام قلب المدينة بالمعنى التاريخي، من نشأتها الفاطمية الى ما آلت اليه في مطلع هذا القرن. وبالمعنى الجغرافي ايضا. فقد كان يبدأ من ميدان السيدة عائشة - قلب الاحياء الشعبية في شرق القاهرة بالقرب من قلعة صلاح الدين، لتتجه الى قرب مسجد الرفاعي قرب نهاية سفح التل الذي بنيت القلعة على قمته ومنه تخترق شارع محمدعلي، احد شرايين المدينة القديمة الفاطمية/ المملوكية، الى ميدان العتبة الذي كان مركز المدينة من عهد الخديوي اسماعيل في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، الى ان انتقل تبعا لتوسعها غربا في خمسينات القرن الماضي الى ميدان التحرير، القلب الحالي للعاصمة ومركز تجمع المظاهرات منذ بداية عهد أنور السادات في مطلع سبعينات القرن الماضي.

لم يكن المراقبون متفائلين، وقد تحقق حذرهم، اغلقت قوات الأمن مركز تجمع المظاهرة بناقلات جنودها ووزعت مجموعاتها على مداخل الميدان المقصود، تمنع من يحاولون الوصول اليه راجلين وتحتجز من تشتبه في انهم يقصدون التجمع في المظاهرة لتنقلهم الى معسكرات قوات «الأمن المركزي» لتبدأ في الافراج عنهم مع حلول المساء وعلى مدى الايام القليلة التالية، باستثناء من تعتبرهم «منظمين رئيسين» في كل المظاهرات، ومنهم حمودة نفسه، وبقوا رهن الاحتجاز إلى حوالي شهرين، قبل ان يفرج عنهم القضاء.

«الإخوان» ينسّقون مع الدولة

ما هي القوى التي كانت تنظم المظاهرات وتقودها؟

قد يمكن وصف العنصر الجامع بين مواقف الأحزاب السياسية من المظاهرات بأنه الفتور.

اذا أسقطنا من الحساب حزب الحكومة الذي يحيط الالتباس بما له من ظاهر القوة التي تتمثل في تلك العلاقة الملتبسة بينه وبين سلطة الدولة، تكون جماعة «الاخوان المسلمون» هي أكبر القوى السياسية في البلاد، مع ذلك لم يظهر لها وجود ملحوظ في تلك المظاهرات، لوحظ حرص «الجماعة» على تنظيم مظاهرات خاصة بها بتنسيق مع السلطات، محددة الزمان محدودة المكان في «استاد القاهرة» الذي لا تفتح ابوابه الا برخصة من الدولة. شعارات المظاهرات مقررة ومتفق عليها مع السلطات، وقد نظمت الحركة اثنتين من تلك المظاهرات المقننة، واحدة قبل نشوب الحرب والاخرى اثناءها. وقال المرشد العام للجماعة لكاتب هذا التحقيق في تبرير هذا الاسلوب انه شهد «حريق القاهرة» في مطلع 2591 كما شهد الاضطرابات التي اجتاحت البلاد في 7791 ولم يؤد الحدثان الى شيء سوى الفوضى والخسائر، مضيفا ان «من يريد ان يحرك الشارع يجب ان يكون قادرا على السيطرة عليه وتوجيهه نحو هدف محدد يريد تحقيقه. ليس هذا حالنا ولا حال غيرنا».

... وتعايش بين جناحين؟

لكن شواهد مشاركة «الاخوان» في المظاهرات التي تجري داخل حرم الجامعات قد تشير في اتجاه آخر. هناك من العارفين بأحوال الحركة الاسلامية في مصر من يقول ان قرار «الجماعة» اصبح تعبيرا عن نوع من التعايش بين جناحين يعبران عموما عن جيلين، القدامى الذين ينطوون على مخلفات تاريخ الجماعة، بما في ذلك «تكفير» الشيوعيين و«الثأر» في اعناق الناصريين. لكنهم لم يعودوا اسرى له، ربما بفعل الزمن وربما بتأثير الجيل الجديد في الجماعة، الذي نشأ أقطابه سياسيا و «اسلاميا» خارجها، ثم «اهتدوا» اليها، لكنهم دخلوها محملين بأفكار حديثة عن العمل السياسي اكتسبوها من تجاربهم في النشاط الطلابي ضد سياسات أنور السادات. بينما مازال الجيل القديم مقتنعا باحتكار الحقيقة، فالايمان لا يتعدد وما السياسة الا تعبير عنه. كما انهم يعيشون نوعهم الخاص من الثنائيات: اما مع السلطة او ضدها؛ وبين هذين القطبين ترجيح احدهما والسعي اليه. في هذا الاطار يقع ما يعتبره هؤلاء المراقبون محاولات للحوار مع الدولة والتقارب معها. من امثلة تلك المحاولات تنسيق الجماعة موقفها من الحرب على العراق مع الدولة وظهور قادة الاخوان إلى جانب رجال الدولة في مقدمة المظاهرتين اللتين نظمهما «الاخوان» في «استاد القاهرة». واللتين اعتبرهما هؤلاء العارفون محاولة اقناع الدولة بجدوى اتخاذهم حليفا. وان كان مراقبون آخرون اكثر تشكيكا يعتقدون ان غرض المظاهرتين كان استعراض قدرة «الجماعة» على الحشد والتنظيم أمام من يريد ان يرى.

اما الجيل التالي، وابرز ممثليه المجموعة التي شرعت منذ سنوات في تأسيس حزب سياسي باسم الوسط. ولقوا من قيادة الاخوان عنتا مصدره الشك في دوافعهم ونواياهم. ولقوا من الدولة عسفا مصدره الارتياب في ان يكون مشروع الحزب مجرد واجهة للجماعة المحظورة منذ العام 4591. فهؤلاء يميلون إلى العمل مع القوى الاخرى على اساس من مشترك وبغض النظر عن الاختلافات الايديولوجية وعن الارث التاريخي.

في ماعدا ما كان يجري في الجامعات، لم تشهد المظاهرات وجودا ملحوظا لتيار الاسلام السياسي. حتى في الجامعات، ويرجح العارفون بالتشكل السياسي فيها - إن على المستوى الطلابي او على مستوى هيئات التدريس - ان التعبير السياسي عن الاسلام في الجامعات لا يقتصر على «الاخوان».

اليسار يراقب بعيون ناعسة

اما احزاب المعارضة اليسارية: الناصريون وحزب التجمع الوطني والحزب الشيوعي فقد كان وجودها في المظاهرات أقرب إلى الغياب. اذ لزمت القيادات مكاتبها. اصدرت بيانات معتدلة لا تتطرق إلى الاوضاع الداخلية. فرض حزب التجمع رقابة محكمة على صحيفته فلم تنشر لا «بيان المثقفين» ولا بيان نادي القضاة. وصف أحد الساخرين مواقف تلك الاحزاب بأنها «مراقبة المظاهرات بعين ناعسة». اما حزب الوفد فيسهل اخراجه من الحساب، اذ توحي التطورات منذ وفاة فؤاد سراج الدين الذي أعاد تأسيسه، بأن بعثه كان تعبيرا عن حنين إلى الماضي الذي كان وجود ذلك المؤسس ايهاما بامكان عودته.

هل يعني هذا أن المظاهرات كانت تتحرك من دون قيادة منظمة تتولى التخطيط لها وقيادتها؟

ظهرت في قيادة المظاهرات وجوه كانت مألوفة في قيادة المظاهرات التي كانت تطالب انور السادات بشن الحرب على «اسرائيل» في 2791. كانوا عندئذ قادة لحركة طلابية يتوزعون سياسيا بين شيوعيين وناصريين. اليوم لم يعودوا كذلك، اصبحوا على يسار ما كانوا.

بعض الناصريين «المستقلين» عن الحزب الناصري اصبحوا معروفين بعلاقات مع نظام الحكم في العراق بأغطية متنوعة، من الموقف القومي العربي الذي يرى «مؤامرة امبريالية» وراء كل أزمة او مشكلة او حدث، إلى «التضامن مع الشعب العراقي». بعض العلاقات والأطراف فيها موضوع لأقاويل في الاوساط السياسية والثقافية تدور حول منافع.

هؤلاء اشتركوا في تنظيم المظاهرات وقيادتها وتعرض بعضهم لعنف قوات الأمن وللاعتقال لعدة اسابيع.

اما الشيوعيون السابقون فمواقفهم الحالية نتاج خيبة أمل مزدوجة: في الحزب او الاحزاب التي كانوا ينتمون اليها والتي اصبحت اميل إلى الاستئناس وابعد عن «النضال». وفي الايديولوجية التي كانت سائدة والنموذج الذي قام عليها - الاتحاد السوفياتي وايديولوجيته استيقظوا منهما على افكار «المجتمع المدني» و«الديمقراطية الليبرالية» ووجدوا لها مكانا في سياق الماركسية.

استطاعوا ان يكسبوا أنصارا بين من تلا جيلهم من الشباب والطلاب، هم جمهور هذه المظاهرات وحشدها.

ذخيرة جديدة

ترافق توسع المظاهرات وانتشارها مع دخول «ذخيرة جديدة» غير مألوفة إلى ترسانة ما يردده المتظاهرون من هتافات، الجديد يتناول رئيس الدولة ويعرِّض بالنزاهة المالية لأسرته، كما يعبر عن رفض ان يخلف جمال مبارك اباه رئيسا للبلاد. كان تعرض المظاهرات لشخص الرئيس واسرته قد «خرج من التداول» منذ مظاهرات يناير/كانون الثاني 7791 التي اجتاحت البلاد اعتراضا على قرار الحكومة في عهد انور السادات رفع اسعار سلع اساسية. كما كانت هذه المظاهرات هي الاولى التي يظهر فيها «تدخل الشارع» في طريقة اختيار الرئيس منذ المظاهرات التي عمت البلاد في ربيع العام 4591، تطالب الجيش بـ «العودة إلى الثكنات» في خضم الصراع على طبيعة الحكم بين فريقين من «الضباط الأحرار»، احدهما بقيادة جمال عبدالناصر والآخر يقوده خالد محيي الدين وراء اللواء محمد نجيب الذي كان رئيس الجمهورية.

العدد 375 - الإثنين 15 سبتمبر 2003م الموافق 19 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً