العدد 375 - الإثنين 15 سبتمبر 2003م الموافق 19 رجب 1424هـ

تعليق على الموقف الفلسطيني... مؤمن ولو كفر!

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

بعد مقابلة تلفزيونية في إحدى المحطات العربية التي أبديت فيها نقدا لما يجري من صراع شخصي على السلطة في فلسطين، تحدث معي أحد الأصدقاء معاتبا، وقال إن الفلسطينيين يعيشون حالا مزرية تحت الاحتلال، لا يحسدهم عليها أحد، ومهما كانت أخطاؤهم فهم غير ملومين. ثم أردف أن الفلسطيني (مؤمن ولو كفر)!

لم يكن الصديق بعيدا عن الحق في ملاحظته تلك النابعة في الأساس من تعاطف كبير مع الفلسطينيين، الذين يعانون الأمرين من الاحتلال الإسرائيلي لا خلاف على ذلك، وهو تعاطف يكنه معظم العرب. إلا أن عبارة ( مؤمن ولو كفر) قد استوقفتني، هل المطلوب أن نبرر كل ما تقوم به القيادات الفلسطينية مهما ارتكبت من أخطاء، على أن مواقفهم السياسية مقبولة ومرحب بها، أم مثل حقهم علينا في المناصرة، لنا حق عليهم في النقد.

الهدف واحد، أن يحصل الفلسطينيون على دولة تجمع لهم ما بقي من فلسطين، وهي الأرض المحتلة بعد سنة 7691، وهي ارض يتنازل عن بقيتها تاريخيا الفلسطينيون والعرب بسبب الظرف التاريخي الذي نعيش.

فليس هناك مبرر منطقي اليوم للحديث عن أسباب فقد تلك الأرض، لماذا فقدت ومن المتسبب في ذلك، إلا أن أحد أسباب فقدها، هو القول ألا مناقشة لما يحدث على ساحة الصراع الفلسطيني، وان المطلوب من الجميع، اما أن يناصروا أو يسكتوا، أما النقد فهو ليس واردا.

هذا الموقف الداعي لتكميم الأفواه، هو الذي سبب كل هذا الخسران الذي نعيش فيه ونتأفف من نتائجه على الساحة العربية وفي كل المواقع، وهو يذكرنا بموقف مشابه إبان اشتداد الحرب العراقية الإيرانية، بأن على العرب من منظور المنطق العراقي السابق، إما أن يناصروا الحرب ضد إيران أو يكفوا، والخيار الآخر أن يخرجوا من عرب الثقافة إلى (عرب اللسان) الشعار المشهور للنظام العراقي السابق.

أعرف أن القضية الفلسطينية تختلف عن حرب العراق وإيران، ولكني أرى خطأ في التفكير متشابه، إذ عقد اللسان عن النقد، ومنع إبداء الرأي الآخر، هو ما يقعد شعوبنا عن التفكير ويؤدي إلى الكارثة.

لذلك فإني أضع بعض الملاحظات على ما يجري في فلسطين وحولها اليوم:

أولا: تتعدد العناوين السياسية لفلسطين اليوم، من منظمة التحرير، إلى حماس إلى الجهاد إلى الجبهة الشعبية إلى كتائب القسام إلى عدد آخر من الجماعات الصغيرة المختلفة، هذا التعدد السياسي مطلوب بل مرحب به في حال وجود الدولة، أما في مرحلة التحرر الوطني فالمطلوب شيئا آخر غيره، هو الجبهة الوطنية العريضة، التي ان قررت المواجهة، تكون المواجهة شاملة وبأساليب محددة، وان قررت السلام يكون السلام شاملا وبأساليب معروفة.

ثانيا: ما افتقدته حكومة محمود عباس (أبومازن) وما ستفتقده حكومة احمد قريع (أبوعلاء) في المستقبل القريب، هو الموقف السياسي الموحد خلف قرارات الوزارة. هذا الشتات في العناوين السياسية يعوق العمل الفلسطيني، بل ويقعده عن الإنجاز.

لقد قوبل أبو مازن في الاجتماع الأخير للمجلس الوطني الفلسطيني بشعارات كانت محجوزة (للخونة والمجرمين) وفي حمأة الصراع نسي الجميع كفاح أبو مازن الطويل والصعب فانصبت الشعارات ضده وألصقت به، ليس من البعيدين فقط ولكن من الاقربين أيضا.

وشخصية مثل احمد قريع ستواجه بمثل هذا الأمر، ليس بتشدد إسرائيلي وفتور أميركي ودولي فقط، ولكن أيضا بشد وجذب فلسطيني، فلسطيني، وما يوقع الأخير في مشكلات اكبر من سلفه هو تقديمه اجندة الإفراج عن عرفات الرجل قبل (الإفراج عن الوطن).

ثالثا: ليس بالوارد الإقلال من هجمة عدو بالغ القسوة، الذي نعرفه ويعرفه الفلسطينيون، مع ما لديه من تأييد دولي، فهو عدو يتمتع بكل أشكال التسلط تلك حقيقة ثابتة، إلا أن السباق في فلسطين بين الفلسطينيين على السلطة، والتنافر فيما بينهم ليس جديدا أيضا، فالحقيقة الأخرى، هي أن الجسم الفلسطيني كلما تشتت، ضعفت مناعته أمام الهجمة العارمة، وكلما اشتد عوده ووقف في صف واحد، متفق عليه له بندقية واحدة، استطاع أن يصل إلى بعض أهدافه.

رابعا: لقد اختلط اليوم في الموضوع الفلسطيني، ما هو شخصي بما هو عام، وفلسف الشخصي ليبدو انه عام وجوهري. خذ مثلا الموقف من ياسر عرفات شخصيا، لقد ارتكب الرجل من (الأخطاء السياسية) الكثير، إذ تشبه ولايزال في كثير من تصرفاته السياسية بمحاكاة بعض المتسلطين العرب، التي تقول شعاراتهم إما أنا، وإما أن يذهب الجميع إلى الجحيم، وذلك ليس هدفا تاريخيا أو حتى سياسيا وأخلاقيا يمكن الدفاع عنه.

خامسا: الصراع بين الأجنحة يجعل من القوة الفلسطينية، على أهمية قضيتها، في موقف متذبذب وقابل للابتزاز. فليس سرا أن منظمة التحرير بعد الانتفاضة الأولى اعتقدت أن التيارات الإسلامية السياسية الفلسطينية ستسرق منها الأضواء، والقدرة على التحدث باسم فلسطين، فقامت بتقديم بعض التنازلات في أوسلو، على أساس تأكيد وحدانية المنظمة في تمثيل الفلسطينيين. وقد جرت بعد ذلك الكثير من المياه تحت نهر القضية، فأصبح الجميع في مأزق نشاهده اليوم، من نهر الدماء التي تنزف، وكأن الدم الفلسطيني أصبح سهلا وميسورا ليتدفق إلى الأبد.

سادسا: القاعدة الخطأ التي يتعامل بها الإسرائيليون والفلسطينيون على السواء هي الاعتقاد أن الطرف الآخر لا يحترم إلا القوة الفظة، وأن افضل طريق لإجبار الطرف الآخرعلى الخضوع والتسليم هو (استخدام القوة المفرطة) لهذا السبب نرى أن الإسرائيليين يقومون بغارات لقتل الناشطين الفلسطينيين وهدم بيوتهم واصطيادهم بالطائرات المروحية، ويجيب الفلسطينيون على ذلك برجال (أو نساء) مفخخين بالمتفجرات، وبمهمات انتحارية تتفجر في الأماكن العامة الإسرائيلية، لجلب اكبر قدر من (التخويف) للشارع الإسرائيلي، ولقد وقف عدد من الفلسطينيين والمتعاطفين معهم ضد هذا النوع من العمليات، إذ إن هذه الاستراتيجية تعضد سياسات التيارات المتطرفة في «إسرائيل»، وتتيح لهم بشكل سهل تصعيد الصراع، واصطياد المؤازرين و المقاومين، ودفعهم باتجاه الطريق المسدود.

الطرف الفلسطيني هو الأكثر خسارة من حيث الدم ومن حيث تناقص الإمكانية أو فقدها كليا فالموقف الدولي العام لا يتعاطف مع هذا النوع من التفخيخ الإنساني، وخصوصا ضد المدنيين وبذلك تكسب «إسرائيل» على ذلك المستوى أكثر مما يكسب الفلسطينيون، أما في الشارع العربي فعلى رغم التعاطف الواسع والتأييد الكبير والطبيعي للأعمال الفلسطينية، على أنها ردة فعل طبيعية لما يجري لهم، فإن هذا الشارع أصبح مقيدا من حيث التأييد السياسي والدعم المالي.

فالمال سيجف في نهاية الأمر من لدن القوى الفلسطينية التي أصبحت تعامل معاملة (الجماعات الإرهابية) في المصطلح الدولي، والأصوات العربية الرسمية تعلن يوما بعد يوم استئنافها (للعلاقات مع «إسرائيل») طوعا أو جبرا، فلم يعد محل استغراب أن تظهر البيانات العربية الرسمية مطالبة بـ «ضبط النفس» من كلا الطرفين! إذا أضفنا عاملا آخر وهو أن «القوة المفرطة» في نهاية اليوم تكون الغلبة فيها لدى اولئك المدججين بالسلاح، فإن المعادلة تصبح صفرية. ليس أمامها إلا أن تأخذ المسار السياسي فهو اقرب، في ظل توازن القوى والموقف الدولي، للوصول إلى تسوية.

شعار السلام العربي يجب أن يلتصق بشعار آخر هو المقاومة السلبية لا الانتحارية، ولها طرق كثيرة، كما لا يجب أن ينفصل ذاك الشعار عن اتحاذ عنوان فلسطيني سياسي وعسكري واحد لا أكثر.

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 375 - الإثنين 15 سبتمبر 2003م الموافق 19 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً