يقول تشارلي شابلن: «عندما ترى الجمهور يصفق بحماس شديد في أي عمل مسرحي، فثق أنه لا يصفق فقط لكاتب النص ومخرجه وممثليه فقط، لأنهم ليسوا وحدهم الذين يستحقون ذلك، بل يصفق لأن العمل أصبح متكاملا ما يدفعه إلى ذلك الحماس لأن وراء هذا العمل المتكامل عشرات ممن يعملون خلف الكواليس من العاملين البسطاء».
تذكرت هذا المقطع من كلام الفنان العالمي الراحل تشارلي شابلن عندما استمعت لكلمة رئيس مجلس إدارة شركة الوسط للنشر والتوزيع فاروق المؤيد التي أبرزت مجموعة من الحقائق التي تؤكد وعيه بأهمية صدور هذه الصحيفة، كان أهمها تلك العبارة التي التقت مع رأي تشارلي شابلن عندما قال: «لا يمكننا أن ننسى جميع العاملين في الصحيفة - محررين وإداريين وفنيين - الذين صاغوا تجاربهم في تجربة وطنية جديدة فأنبتوا هذا النبت الطيب».
إنه بالضبط ما قاله شابلن، فالعمل المسرحي لا يكتمل بالنص الجيد والمخرج الجيد بل يجب أن يكون (التيم) متكاملا فالنبت الطيب يحتاج إلى مناخ جيد وبذرة جيدة وماء عذب ورعاية متواصلة وهذا ما قاله الوجيه فاروق المؤيد في كلمات قصيرة معبرة.
ان مشاركة عدد من أثرياء البلاد ووجهائها من أمثال فاروق المؤيد لإبراز هذا المشروع الحضاري هي تأكيد حقيقي أن هناك حسا وطنيا متقدا لدى هذه الطبقة بأهمية الخروج من شرنقة التجارة للربح فقط إلى آفاق التجارة للمصلحة الوطنية ومن خلال حس وطني بأن للشعب عليك حقا وللوطن عليك حقا مثلما أن لبدنك عليك حقا.
صحيح أن التاجر - شئنا أم أبينا - مستثمر لا يضع رأس ماله إلا في موقعه الصحيح الذي يريد أن ينبت أرباحا ويجني أرباحا لا أزهارا فحسب لكن الفارق بين هذا وذاك أن هذا النوع من التجار هم الذين يعملون من أجل المصلحة الوطنية ومن خلال السير على خطين متوازيين معا، الربح والمصلحة الوطنية وحين يلتقي هذان الحسان وهذان الهمان معا سيكون الوطن بخير.
ان هناك العشرات من أصحاب رؤوس الأموال القادرين على خدمة الوطن برؤوس أموالهم ولكن الكثيرين منهم يعملون من خلال هم واحد هو الربح مسقطين عن كاهلهم ضرورة أن يلازم هذا الربح الحس الوطني.
وحين يعشعش في عقل التاجر الربح فقط ولا صوت فوق معركة الربح ساعتها يكون هذا التاجر أنانيا وهم كُثر للأسف في بلادنا، فالذين يفضلون أن يستثمروا أموالهم وثرواتهم خارج البلاد هم من هذا الصنف الذي لديه حس واحد هو ضمان ربحه واستقرار هذا الربح والنوم في أمان من دون أن يفكر في أن لهذا الشعب عليه حقا ولهذا الوطن الذي ولد فيه حقا ومن حقهما عليه - على أقل تقدير - أن يوجه ولو جانبا من ثروته لإقامة مشروعات في الداخل حتى لو كان في ذلك شيء من المخاطرة لكنه على الأقل وظف مجموعة من أبناء وطنه وأدى بذلك دينا عليه في رقبته فينام قرير العين أكثر من التاجر الآخر الذي ينام قرير العين لأن ثروته في مصارف سويسرا أو وضعها في شراء ملاهي ليلية يستثمرها في أوروبا وجنوب شرق آسيا وربما أرباحه تفوق أرباح هذا التاجر الذي عمل من خلال حس وطني لإرضاء ضميره الحي الذي فضل المغامرة بتوظيف أمواله في الداخل ليستفيد ويفيد وطنه ومواطنيه إلا أن اللعنات ستطارده وتطارد أسرته لأنه وظف ماله في مواقع محرمة عكس التاجر الأصيل الذي وظف ماله في مشروع إنساني نبيل ومفيد معا على أرض أجداده.
لنتساءل عن هذا المشروع ضمن سلسلة المشروعات التي تأمل الشركة القيام بها كما ذكر الأستاذ المؤيد في كلمته وهو يقول: «فعندما عقدنا العزم على تأسيس الشركة كان رائدنا هو تأسيس مشروع وطني شامل يخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ويعيد تعريف البحرين لأهلها وجيرانها من جديد من خلال ما تشهده حركة نشطة على الوجوه كافة».
كم يد وظفت؟ كم مواطن بحريني يعمل بهذه الصحيفة؟ كم فني وكم شاب وفتاة يعملون اليوم فيها بمرتبات مجزية؟
ألا يعني أن رأس المال المستثمر في هذا المشروع قد خدم الوطن والمواطنين كما خدم أصحابه؟
وفاروق وزملاؤه الذين شاركوا في تأسيس الشركة الوطنية كانوا يدركون جيدا أنهم متجهون إلى عمل وطني تنموي ثقافي اجتماعي وسياسي بمعنى أنهم كانوا واعين لذلك، ولهذا فإنه من حقهم علينا والحال كذلك أن نقف إجلالا واحتراما لهم ولكل صاحب رأس مال يستثمر ثروته وهو واضع في اعتباره همين معا الربح ومصلحة الوطن، وهكذا يكشف فاروق عن أنه يعي جيدا هو وزملاؤه ما يفعلون، فهم يدركون حقيقة أنهم أقدموا على تأسيس شركة وطنية يستفيد منها المواطنون قبل أن يستفيد منها أصحاب رؤوس الأموال وأنهم فعلوا ذلك لأن للصحيفة رسالة وطنية وقومية فهو يعني ما يقول تحديدا «وبعبارات دقيقة وواضحة لأنه بهذا المشروع يعيد تعريف البحرين لأهلها وجيرانها من جديد من خلال ما تشهده من حركة نشطة على الوجوه كافة».
ان المؤيد بهذه العبارة القصيرة اختزل الكثير من المعاني. فمشروع ثقافي وسياسي كهذا يمكن يوما أن يتجاوز التعريف بالبحرين محليا أو الحدود المجاورة إلى آفاق أوسع وأرحب لو تمكنت إدارتها من مواصلة الحماس الذي بدأت به فقد تصبح مثل زميلاتها «الحياة» و«الشرق الأوسط» للتعرف بالبحرين بكل ثقافتها وحضارتها وفكرها وتاريخها وعراقة شعبها إلى كل حدود الوطن العربي بل ربما ستخترق الدول الأوروبية التي تحتضن الملايين من العقول العربية المبدعة التي ضاقت بها أرضها لأن أنظمتها العربية البائسة فضلت محاصرة شعوبها في أقفاص لا تتسع لأولئك الذين قال عنهم شيخ شعراء العرب أبوالطيب المتنبي:
فإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
والمؤيد بهذه الكلمة القصيرة فتح للمواطن جرحا كان قد تناساه منذ زمن حين أسدل الستار على آماله في كثير من تجار هذا الوطن وأصحاب رؤوس الأموال الذين فضلوا أن يملأوا بها خزائن مصارف أوروبا والولايات المتحدة وإقامة مشروعات خارج هذا الوطن لتكون «عذاري التي تسقي البعيد وتترك القريب».
لقد تعب المثقفون والغيورون من أبناء هذا الوطن من التغني والعزف على وتر الدعوة إلى ضرورة جعل خيرهم في بلدهم ليصيبوا بذلك أكثر من عصفورين أو ثلاثة بحجر يأتي في مقدمتها إحساس التاجر بأنه شارك في تنمية وطنه كما يفعل اليوم فاروق المؤيد وعدد من زملائه ثم شعور المواطن بالمحبة والود تجاه هذه الطبقة لترى فيهم إخوانا حقيقيين يكبرون في عيون المواطنين لأنهم برؤوس أموالهم ومشروعاتهم ينقذون جياع الوطن من وحش البطالة إلى جانب الربح الذي سيجنيه، اتسع هامشه أو ضاق عدا أن ثروته تحت بصره ولن تكون معرضة للعبة الأميركية الصهيونية التي صارت تجمد أموال العشرات كل يوم خصوصا من أثرياء العرب بخلق ذرائع كاذبة.
لقد تعب المثقفون فعلا من هذه الدعوة خلال المرحلة السابقة من تكرار «خيركم... خيركم لأهله» فلم يجدوا آذانا صاغية حتى قطعنا آمالنا فيهم ونام هذا الجرح وكدنا نتناساه، لكن كلمة الأستاذ فاروق المؤيد أعادت إلى الأذهان ضرورة إعادة الأمل، فالبحرين لا تعدم من وجود تجار مثله ومثل زملائه يعرفون جيدا كيف يخدمون وطنهم، وأين يستثمرون أموالهم، وفيم يوجهون ثرواتهم. هذا البلد الذي كشفت المنعطفات التاريخية كيف وقف تجارها ووجهاؤها مع الشعب في وجه الاستعمار البريطاني منذ العشرينات إلى أن خرج من بلادنا ونفي الكثير منهم مثل الشيخ عبدالوهاب الزياني وبن لاحج والباكر والشملان والعليوات إلا نموذجا من هذا النوع من الوجهاء والتجار أصحاب الحس الوطني والقومي.
أذكر قبل بضعة أعوام ان المؤيد اشترى مشروعا تجاريا يضم مجموعة من الوكالات العالمية المشهورة، كان ورثة صاحبه يرغبون في الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية فما كان منه إلا أن اشتراه وطوره ووظف عشرات الأيدي العاملة البحرينية، ساعتها لم أكن قد تعرفت عليه لكنني قلت في نفسي وكنت قد دخلت المؤسسة لشراء بعض الحاجات، فما أن وقع بصري على فتياتنا وهن متوزعات هنا وهناك في مجال المبيعات وغيره قلت في نفسي (رحم الله والديه) انه حقيقة مواطن صالح وتاجر يستحق منا كل تقدير وهكذا نجد أن التاريخ أعاد نفسه من جديد حين قام هو ومجموعة من زملائه بإقامة هذا المشروع الثقافي السامي والرائع والذي هو باكورة أعمال هذه الشركة، فـ «الوسط» اليوم وهي تطفي الشمعة الأولى بمرور عام لا على ميلادها بل على نجاحها سيجعلني أعيد الدعوة إلى كل أصحاب رؤوس الأموال وأناشدهم لإقامة مشروعات داخل هذا الوطن الصغير (الزغنتوتو) الجميل وستدر الخير الوفير عليهم بإذنه تعالى عدا عن دعاء الأسر الفقيرة المحتاجة التي تتطلع إلى توظيف أبنائها وهذا وحده ثروة لا تقدر بثمن، فدعوة البائس المحتاج مستجابة عند الله.
ماذا يحدث لو أن القياديين والذين جمعوا أموالا طائلة سواء بطرق مشروعة أو غير مشروعة أن يعيدوا إلى البحرين جزءا من هذه الثروة لإقامة مشروعات صناعية واستثمارية تدر عليهم الربح الوفير وتنهي عصر البطالة الذي صار يمتد أفقيا ورأسيا في وطن معظم أبنائه يتطلعون إلى العلم كما يتطلع العاشق إلى معشوقته فيتخرج آلاف الجامعيين وغير الجامعيين كل عام وينتشرون من دون عمل وكأنهم في واد غير ذي زرع؟.
آن الأوان لعودة الوعي والحس الوطني والإدراك بأن وجود الثروة داخل وطن مستقر مثل بلادنا لا يتطلع شعبه إلا إلى تحسين أوضاعه فقط في مرحلة التقت إرادة قيادته الجديدة برئاسة جلالة الملك بإرادة القيادات السياسية على ضرورة الخروج من غبار الماضي وضباب التخلف إلى آفاق التطور والتنمية والتقدم من أجل بناء بلد ديمقراطي خال من البطالة والأزمات السابقة.
ولو تعاون أصحاب رؤوس الأموال فأعادوا الطيور المهاجرة من أقفاص أوروبا ونيويورك وسويسرا لترفرف على أرضنا لأمكن بناء وطن نموذجي خال من الأزمات أو - على الأقل - محدود الأزمات.
ليخلق تجارنا من أصحاب الحس الوطني من البحرين سنغافورة في الخليج لنكن نموذجا يحتذى ثقافة واقتصادا وتقدما على كل المسارات بمباركة مليكهم الشاب وهم قادرون على ذلك لو صفت النيّة وفكروا بإحساس المواطن الصالح الذي يعشق وطنه ويحب الخير له.
ولو كنت عالما ولدي حق الاجتهاد لأفتيت بأن كل صاحب رأس مال يستثمر رؤوس أمواله داخل وطنه بإقامة مشروعات صناعية وتنموية فأنه يقدم بعمله هذا صدقة جارية تحسب في ميزان حسناته لأنه يحمي بذلك المواطنين من البطالة إذ يعيلون بذلك العمل أُسرهم وهذا لا يقل أهمية من تبرعه بالأموال لصناديق خيرية لأن الذي يحصل مساعدة من تلك الصناديق يشعر داخل نفسه بالمهانة لكن الذي يحصل على عمل مجز داخل أحد المصانع فإنه يأخذ أجره وهو يحس باعتزازه بنفسه لأنه يأخذ المال مقابل ما يعطي من عمل ومن هنا فإنني أرى في إقامة هذه المشروعات داخل البلاد صدقة جارية للمستثمر الوطني والمثل الصيني يقول: «أن تعلمه كيف يصطاد خير من أن تعطيه سمكة»
العدد 371 - الخميس 11 سبتمبر 2003م الموافق 15 رجب 1424هـ