العدد 371 - الخميس 11 سبتمبر 2003م الموافق 15 رجب 1424هـ

فرق المعتزلة: المأمون وفلسفة اليونان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

استقل المأمون بأمر الدولة العباسية بعد قتل أخيه الأمين سنة 891هـ (418م). كان المأمون شخصية غريبة من نوعها، ويمكن اعتباره أغرب شخصية خلافية في العصر العباسي الأول. فالمأمون ختم القرآن وسمع الحديث من كبار الأئمة والعلماء في عصر والده هارون الرشيد، ولما كبر كما يقول السيوطي في تاريخه «عني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومَهَر فيها، فجره ذلك الى القول بخلق القرآن» (ص 603).

فالمأمون كما يذكر الذهبي في تاريخه «استخرج كتب الفلاسفة واليونان من جزيرة قبرص». وقبل ان يفعل ذلك أقدم على سلسلة خطوات سياسية أدت الى إثارة أزمات كادت أن تطيح بالدولة. ففي سنة 102 هجرية خلع أخاه المؤتمن من العهد وجعل ولي العهد من بعده علي الرضى بن موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق، وأمر بترك «السواد ولبس الخضرة» فاتهم بالتشيع وأثار عصبية بني العباس (شعارهم اللون الأسود) فخرجوا عليه وبايعوا إبراهيم بن المهدي. ودبت الفوضى وكاد الانقسام يهدم الدولة نتيجة الابتعاد بين العصبيتين العباسية والعلوية. وانتهت الأزمة بوفاة الإمام علي الرضى سنة 302 هجرية وتراجع المأمون عن قراراته بالخلافة واللباس وتغيير الألوان وشعارات الدولة.

وما كاد المأمون ينتهي من أزمة حتى أدخل الدولة في أزمة أكبر وهي فتنة «خلق القرآن». ففي سنة 212 هجرية أظهر القول بالفكرة واستمر يظهرها الى ان قرر ان يمتحن الناس بها جاعلا منها الأساس العقائدي للدولة. وفي سنة 812 هجرية كتب الى نائبه في بغداد اسحق بن إبراهيم الخزاعي كتابا شرح فيه فكرته، وطلب منه استدعاء الفقهاء وشيوخ الحديث وامتحان العلماء بقوله. فأجابته طائفة من العلماء خوفا من السيف، وامتنع آخرون فكانت فتنة كبرى استمرت حتى بعد وفاته.

يختلف المؤرخون وكتّاب «الملل والنحل والفرق» في تفسير ظاهرة المأمون والدوافع التي حرضته لسلوك سياسات متعارضة انهكت الدولة بخلافات كان بالإمكان تجاوزها او الاستغناء عنها بأقل الخسائر.

ابن حزم الأندلسي (الظاهري) يميل في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» الى تحميل الأغراب والأجانب والجاليات من فرس وترك المسئولية، ويبالغ في تفسير العوامل الخارجية وتضخيمها، ويرى أيضا ان للفرس والترك دورهما في إثارة الفتن العقائدية وظهور شخصيات مثيرة للجدل والاضطرابات مثل بابك الخرمي، والمقنع ومزدك وأنو شروان (الجزء الثاني، ص 372 - 472).

فابن حزم هنا يرى ان تلك الحركات والظواهر والأفكار، قبل المأمون بعشرات السنين وبعده، كانت حوادث مخططة سلفا ومدبرة... والقصد منها ارباك الأمة وتخريب العقيدة.

الى التفسير العرقي للتاريخ هناك تفسيرات أخرى (ايديولوجية) تميل الى اعطاء الأفكار «المترجمة» وزنها في التغلغل الى العقول وتخريب النفوس من خلال الدس والافتراء والحط من صفات الصانع.

وهناك ما يشبه الاجماع عند الكثير من المؤرخين على ان بدايات الاختلاف العقائدي بدأت مع ترجمة كتب فلاسفة اليونان. وهذا أيضا غير دقيق تاريخيا لأن الترجمة بدأت قبل عصر المأمون ووالده هارون الرشيد. فالبدايات الأولى تعود الى مطلع عهد الدولة الأموية، ولعب حفيد معاوية (خالد) دوره في تشجيع الادباء والمفكرين على ترجمة الكتب من الآرامية والسريانية الى العربية. ونجح في أيامه في تأسيس مكتبة ضخمة ضمت مئات الترجمات التي شملت عشرات الحقول والأنواع المتعددة من أبواب المعرفة (علوم، فلسفة، تاريخ، رياضيات، فلك وجغرافيا وغيراها). فالأمة في عصورها الأولى عرفت الكثير من الترجمات، واحتكت بأنواع مختلفة من الثقافات والحضارات قبل دخول الدولة العصر العباسي.

لاشك في ان عهد الرشيد وابنه المأمون شهد طفرة نوعية من الترجمات حتى يقال إن اسحق بن حنين، وحنين بن اسحق أشرفا على لجنة مؤلفة من مئة مترجم قاموا بتعريب ونقل معظم المؤلفات البيزنطية الى العربية. إلا ان الاحتكاك والتأثر المتبادل والاطلاع على ما كتبه الفرس والترك واليونان والهنود سبق تلك المرحلة المتأخرة في عهد المأمون.

المأمون - وهذه مسألة مهمة - اشتهر بثقافته الواسعة واطلاعه على الكتب. فقد أمر بتكثيف الترجمة، ولكنه أراد منها ان تتحول الى سياسة جديدة في مشروعه وهي تأسيس مذهب مستقل للدولة يقول به كل الأئمة والعلماء. فراهن بداية على آل البيت وفشل بسبب معارضته بني العباس ورحيل الإمام علي الرضى. فانتقل رهانه على المعتزلة وهي مجموعة فرق اتجه بعضها الى مزج كلام الاعتزال بكلام الفلاسفة، الأمر الذي أهوى المأمون واغراه نحو الاندفاع في مشروعه السياسي وإعادة تقديمه في إطار ثقافي - عقائدي.

آنذاك عرفت الدولة العباسية الكثير من هؤلاء، وكان أبرزهم معمر بن عباد السلمي. فهذا أسس فرقة عرفت باسمه المعمرية وأحيانا السلمية. وتتلمذ عليه كبار المعتزلة مثل بشر بن المعتمر، وهشام بن عمرو الغوطي، وأبوالحسن المدائني.

اختلف المؤرخون على تحديد هوية معمر السلمي. فابن النديم في «الفهرست» يقول إنه من بني سليم من ساكني البصرة. وابن حزم يقول في كتاب «الفصل» إنه هو المنتمر معمر بن عمرو العطار البصري. وينسب الشهرستاني الفرقة الى معمر بن عباد السلمي. ومهما كانت الاختلافات على هوية معمر واصله القبلي والاجتماعي، إلا ان هناك ما يشبه الاجماع على ان فرقته بالغت في نفي الصفات، ونفي القدر، الأمر الذي جعله يخالف أصحابه من المعتزلة في البصرة فانتقل الى بغداد، وهناك اختلف ايضا مع كبار فلاسفة المعتزلة في عصره إبراهيم النظام. فحصلت بينه وبين النظام مناظرات في أشياء من مذهب الاعتزال فوقع الخلاف بينه وبين تلميذه بشر بن المعتمر فهجاه. وأساس الخلاف بين معمر والنظام ان الأول ينفي الحركة ويقر السكون، بينما الثاني ينفي السكون ويقر الحركة.

يصف الشهرستاني معمر السملي بأنه «من أعظم القدرية فرية في تدقيق القول بنفي الصفات، ونفي القدر خيره وشره من الله تعالى، والتكفير والتضليل على ذلك» (الملل والنحل، الجزء الأول ص 56 - 66).

ويقول الجرجاني عن فرقته في كتاب «التعريفات» انها ذكرت ان «الله تعالى لم يخلق شيئا غير الأجسام. وأما الاعراض فاخترعتها الاجسام، إما طبعا كالنار للاحتراق، وإما اختيارا كالحيوان للألوان». ونقل الجرجاني قولهم إن الله لا يوصف «بالقِدم، لأنه يدل على التقدم الزماني، والله سبحانه وتعالى ليس بزماني ولا يعلم نفسه، وإلا اتحد العالم والمعلوم، وهو ممتنع» (ص 482).

ويذكر الفخري في كتاب «تلخيص البيان» ان فرقة معمر البصري اتفقت مع فرقة البشرية (بشر) في قولها «إن الله لم يخلق لونا ولا طعما ولا قوة ولا ضعفا، كذلك لم يخلق موتا ولا حياة. فالموت والحياة فعل الجسم بطبعه» (ص 301). وهذا مذهب الطبائعيين من الفلاسفة.

أثار معمر في مذهبه الاعتزالي الكثير من الاعتراضات وتعرض لهجمات من شيوخ المعتزلة أبرزهم النظام، الأمر الذي اضطر الكعبي (صاحب فرقة) الدفاع معتذرا عنه وموضحا غموض أقواله كقوله إنه لم يقصد ان الانسان لا فعل له غير الإرادة وسائر الاعراض أفعال الاجسام بالطباع. وبرأي الكعبي ان معمر كان يقصد ان الانسان فيه شيء غير هذا الجسد المحسوس وهو حي عالم قادر مختار. وقال عنه ايضا انه يقصد بأن الله لا يجوز ان يقول فيه انه قديم ووصفه بأنه موجود أزلي.

دفاع الكعبي عن معمر ومحاولاته توضيح أفكاره وشرحها وتفسيرها لم تشفع له، إذ استمر الفقهاء والأئمة، وعلى رأسهم البغدادي مثلا، يؤكدون ان معمر «انكر صفات الله الأزلية كما انكرها سائر المعتزلة» (الفرق بين الفرق، ص 631 - 141).

أقوال معمر تركت أثرها وأثارت جدلا فلسفيا بين فرق المعتزلة. فالقول إن الباري عالم بعلم وانه لم يخلق شيئا من الاعراض وانه خلق الاجسام فقط وهي التي احدثت الاعراض (الحركات) مسائل جديدة لم يقبلها حتى أمثال النظام وبشر بن المعتمر.

كتب معمر الكثير من المؤلفات قبل ان يشهر المأمون القول بخلق القرآن. واشتهرت كتبه تلك التي يعالج فيها القضايا الفلسفية من نوع المعاني، والاستطاعة، والجزء الذي لا يتجزأ، والليل والنهار والأحوال.

توفي معمر الذي يقول عنه ابن النديم انه «رئيس أصحاب المعاني» (ص 702) في سنة 512 هجرية بعد ان ظهرت فتنة خلق القرآن... وهناك من يقول انه توفي سنة 022 هجرية اي بعد وفاة المأمون.

وفي القولين هناك ما يشبه الاجماع على دوره المميز في تحديث وتطوير الجانب الفلسفي من فكر المعتزلة، وأثارة فتنة «خلق القرآن».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 371 - الخميس 11 سبتمبر 2003م الموافق 15 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً