قال ونستون تشرشل، الداهية الانجليزي: «الحروب الكبيرة، سواء رُبحت أو خُسِرت، فهي تغيّر مجرى الحوادث، وتخلق مقاييس جديدة للقِيم، أمزجة جديدة وأجواء جديدة للجيوش والأمم، التي من المفروض عليها ان تتأقلم معها». بالحروب تقوم الامبراطوريات وتسقط. قامت روما بها، وسقطت قرطاجة. للحرب لغتها الخاصة، ومفاهيمها. فهي تحوّل الغصن الجميل إلى سهم قاتل. وتجعل الابن يقتل والده، لتبكي الأم الاثنين معا.
ما الفارق بين بيرل هاربور و11 سبتمبر/ أيلول؟
كانت مفاجأة بيرل هاربور بوسائل يابانية، ضد وسائل أميركية. نُفِّذ 11 سبتمبر بوسائل أميركية ضد أهداف أميركية. كانت الحرب بين اليابان وأميركا، حربا تدور بين دولتين صناعيتين. الحرب الحالية، هي حرب بين أهم دولة متقدمة تكنولوجيّا، أسهمت في تأسيس مفهوم العولمة، وكانت المُسبّب الأول للثورة التكنولوجية الثانية ولثورة الاتصالات العالمية... ضدّ عدو استعمل مبدأ المصارعة اليابانية جوجيتسو، الذي يقوم على استعمال قوة الآخر، ضدّه. ففي ضربة واحدة استطاع هذا العدو تدمير مركز التجارة العالمي، خلال 09 دقيقة، مع إيقاع خسائر مباشرة تقدر بـ 03 مليار دولار، في الوقت الذي استغرق بناؤه حوالي 01 سنوات. كل هذا بواسطة طائرات مدنية من صنع أميركيّ وتحلق في الاجواء الأميركية. حتى ان الصدمة لم تقتصر على السكان المحيطين بمكان الحادث. فبسبب الثورة الأميركية في الاتصالات، وبسبب الترابط الأميركي عبر الاقمار الاصطناعية، إذ تنقل المعلومات والصور في وقتها ومن دون تأخير... بدا الأمر وكأن الأميركيين مرتبطون ببعضهم بعضا بواسطة جهاز عصبي على غرار الجهاز العصبي البشري. فالذي عاناه ابن نيويورك، هو نفسه الذي عاناه ابن كاليفورنيا، حتى ولو كان بعيدا جغرافيّا مسافات كبيرة. وأدى هذا الأمر إلى زرع هذه الصور في الذاكرة الجماعية الأميركية، ولكل الشعب الأميركي أينما كان، وفي الوقت نفسه.
كيف غيّر 11 سبتمبر مسار التاريخ؟
إنه اليوم الذي غيّر مسار التاريخ الذي كان سائدا قبله. منهم من يقول إنه سرّع ما كان متوقعا من أميركا بعد أن سقط الاتحاد السوفياتي، ولم تعد هناك قوة تنافس. ويقول البعض الآخر، ان 11 سبتمبر اعاد ترتيب أولويات الولايات المتحدة، على صعيد مصالحها في العالم. ويقول الصينيون عبر صحيفة «الشعب» اليومية إن أميركا بعد 11 سبتمبر وصلت إلى المرحلة الرابعة من التوسع. والمراحل السابقة كانت على الشكل الآتي: التوسع على صعيد الداخل. التوسع عبر البحار. السعي إلى الهيمنة على العالم. والمرحلة الأخيرة، وهي الحالية، تتمثل في السيطرة على العالم.
لكن مهما كانت التفسيرات والتحليلات، يمكننا القول إن العالم يواجه حاليّا أمرا غير مسبوق في التاريخ. دولة عظمى واحدة، لا منافس لها على الصعيد العالمي، لا في البُعد الاقتصادي، ولا في البُعد العسكري. وهي تعي المخاطر عليها بطريقة لا تتناسب مع القوى الأخرى على المسرح العالمي. تقول هي إن الإرهاب، الخطر المستقبلي على الحضارة عموما، والحضارة الغربيّة خصوصا. ترد القوى الأخرى، ان للإرهاب اسبابا يجب إزالتها، فيزول معها. فهو كان وسيكون وسيبقى من ضمن أنواع وأشكال الصراعات التي خاضتها البشرية منذ مطلع التاريخ. من هنا الاختلاف الكبير في تحديد مسرى الصراع، الذي حتما سيؤثر على صوغ الاستراتيجيات الكبرى، وبالتالي على طرق ووسائل التنفيذ. وفي هذا الوضع، تبدو الدول من العيار المتوسط، والصغيرة، وكأنها تدفع الثمن الأكبر. فعلى سبيل المثال، يقول جوزف ناي في كتابه «معضلة القوة الأميركية»: «على عتبة القرن الواحد والعشرين، يوازي الاقتصاد الأميركي مرتين الاقتصاد الصيني. وإذا ما استمر نمو الاقتصاد الأميركي بنسبة 2 في المئة، والاقتصاد الصيني بنسبة 6 في المئة، فإنهما يتعادلان في العام 0202».
وقد يعطينا هذا التشبيه صعوبة منافسة أميركا حاليّا على المسرح العالمي. فالعام 0202، هو للتلاقي الاقتصادي بين أميركا والصين، هذا إذا لم يحدث طارئ ما يسرّع هذه العملية، كانفجار سلاح دمار شامل على الأرض الأميركية مثلا. والتلاقي الاقتصادي، لا يعني مطلقا التوازن العسكري، فالصين إذا ما ارادت المنافسة في المجال العسكري، فعليها ان تحدّث ترسانتها على الطريقة الأميركية. وهذا أمر قد يأخذ الكثير من أمام النمو الاقتصادي، ليؤثر على عدم التقاء الاقتصادين في العام 0202.
هذا مثال في الشق الصيني، لكنه على صعيد أوروبا المرشحة لمنافسة أميركا. يقول الكاتب روبرت كاغان في مقال طويل جدّا، (صدر بعد ذلك في كتاب)، بعنوان «في القوّة والضعف»، انه اصبح من اللازم ان نكفّ عن القول إن أوروبا وأميركا يتماثلان في نظرتهما إلى العالم. فعلى صعيد مفاعيل القوة، أخلاقية القوة، وعلى صعيد الرغبة في القوة، يمكننا القول إن نظرة أميركا وأوروبا إلى هذه الموضوعات تختلف في العمق. كذلك الأمر، يفرّق الكاتب نفسه المقاربة الأميركية لمفهوم التعددية عن المفهوم الأوروبي، وخصوصا الفرنسي. فالرئيس جاك شيراك يقول إن العالم بحاجة إلى القليل من المبادئ والقليل من النظام لإدارته، وإلا فإن العالم سيتحول إلى عالم هوبسي الصفة (نسبة إلى هوبس). أما بالنسبة إلى الأميركيين، فإن التعددية العالمية، قد تعني البعض من الاصدقاء وكفى. إذا من الجهة الأميركية، المهم في الأسلوب والتكتيك وليس في المفهوم كمفهوم.
إذا الاختلاف بين أميركا وباقي العالم هو ليس على الأسلوب والتكتيك، لكن الخلاف هو في العمق. في القوة كقوة. وفي فلسفة استعمال هذه القوة، وفي كيفيّة تشريع استعمالها، ومن أين تأتي هذه الشرعيّة، وكيف تتّم عمليّة اتخاذ القرار.
ماذا حلّ بعد 11 سبتمبر في ظل هذه الخلافات الجوهرية في العالم؟
في الفترة التي مرّت ما بين إدارة الرئيس كلينتون وقبل تسلم الرئيس جورج بوش الابن، كانت أميركا دولة تشبّه بالغوريلا التي تتمتع بقوة هائلة، لكنها غير مركزة. وفعلا هذا ما ظهر من خلال سلوك الرئيس كلينتون فيما خصّ استعمال القوة عبر العالم. فأميركا خلال حكمه لم تكن متلهفة إلى استعمال القوة بهدف الحصول على مزيد منها. كانت امبراطورية قوية، لكن من دون شهية نهمة. بعد حادث 11 سبتمبر، أصبحت هذه القوة نهمة إلى درجة متقدمة. فهذه القوة كانت اصلا موجودة، لكنها لم تكن مركزة على خطر يتفق عليه الأميركيون، ويعتبرونه بديلا للاتحاد السوفياتي.
بعد 11 سبتمبر بدت أميركا كالديناصور الجريح في محل بيع الخزف. كيفما تحرّك دمّر وكسّر. بعد 11 سبتمبر، اعتبرت أميركا ان الخطر الأساسي الداهم على أمنها القومي يأتي من الإرهاب. وإذا ما تزاوج هذا الإرهاب مع أسلحة الدمار الشامل، فإن هذه الوصفة، تعتبر الوصفة القاتلة لكيان الامبراطورية الأميركيّة. هذا مع التذكير، بأن أميركا هي التي اخترعت النووي، كما هي التي أوجدت الإرهاب الذي تحاربه الآن. تعتبر أميركا أن 11 سبتمبر لم يأتِ على التركيبة الأميركية في كل أبعادها، إذ استطاع المجتمع الأميركي الخروج من هذه الازمة، ويعود السبب إلى حركية وليونة المجتمع الأميركي. لكن الاكيد، انه إذا ما وقع حادث مماثل لـ 11 سبتمبر على الأرض الأميركية، فإن نسيج المجتمع الأميركي سيضرب في العمق، الأمر الذي قد يؤدي إلى تراجع مركز أميركا في الترتيب العالمي، لتصبح دولة كبرى كغيرها من الدول. من هنا نرى صدور الاستراتيجيات الأميركية التي تتناول هذا الأمور. فماذا عنها؟
بعد 11 سبتمبر، أعلنت أميركا الحرب العالميّة على الإرهاب، وركّزت مسارح الحرب على الشكل الآتي: المسرح الأميركي الداخلي. المسرح العالمي حيث ينتشر هذا الإرهاب (06 دولة بعد 11 سبتمبر). الدول الراعية للإرهاب، الدول المارقة وما شابه.
ماذا عن هذه المسارح؟
المسرح الداخلي
تسعى الادارة إلى منع وقوع حادث مماثل لـ 11 سبتمبر على الأرض الأميركيّة. فأميركا لم تضرب في داخلها إلا مرة واحدة في العام 2181، وذلك عندما أحرق البيت الابيض و«الكونغرس» من قبل الانجليز. بعد ذلك شعر الأميركيون بأنهم محميون بمحيطين، الاطلسي والباسفيك، حتى انه لم يوجد على الحدود الأميركية أي تهديد مباشر، فالجيران كانوا مسالمين. بعد 11 سبتمبر تغيّرت كل المفاهيم، وتبدّل الوعي الأميركي الشعبي كما الرسمي، تجاه مصادر الخطر على أمنهم القومي. لذلك بدأنا نرى أميركا وكأنها أصبحت الدولة القلعة. فالإدارة الحاليّة أنشأت وزارة الداخلية للمرة الأولى في التاريخ الأميركي، هدفها حماية الداخل. وهي أمّنت لها التمويل، والبنى التحتيّة وما شابه. كذلك الأمر، اصدرت الإدارة الحالية التشريعات اللازمة، وعلى رأسها قانون باتريوت. ودار جدل داخلي كبير حول هذا القانون، لأنه خلط ما بين الأمن على حساب الحرية التي يرعاها الدستور الأميركي. صدر بعد ذلك قانون حماية الحدود. وأُنشئت ايضا القيادة الشمالية هدفها الدفاع عن الأرض الأميركية. هذا عدا القرار الرئاسي لنصب شبكة الصواريخ المضادة للصواريخ.
وأخيرا وليس آخرا، لا يجب ان ننسى كيف عاملت أميركا الأميركيين المسلمين، وخصوصا من أصل عربي. فهي بهذه المعاملة تكون قد ذكّرتنا بما قامت به في العام 1491، وذلك عندما وضعت الأميركيين من أصل ياباني (عددهم 000001 تقريبا)، في مخيّم لعزلهم عن المجتمع، خوفا من خطرهم بعد مفاجأة بيرل هاربور.
المسرح العالمي
قبل الحديث عن المسرح العالمي، نرى من الواجب الحديث باختصار عن استراتيجية الأمن القومي الأميركي. في هذه الاستراتيجية حدد الرئيس بوش 3 أهداف رئيسية هي:
- عدم السماح لأية دولة بمنافسة الولايات المتحدة على المسرح العالمي. فأميركا تتمتع بوضع لم يسبق له مثيل في التاريخ. فهي الأقوى اقتصاديّا، عسكريّا، وسياسيّا. لكنها ستتعاون مع الدول الكبرى لنشر الديمقراطية، ولرسم موازين القوى. لكن كل هذه الامور، ستكون حتما تحت راية القيادة الأميركية.
- ستعمل أميركا على ضرب أي خطر محتمل، وذلك قبل ان يتشكل ويتجسد على أرض الواقع. وهي ستضرب الدول الراعية، الداعمة، والمناصرة للإرهاب.
- كذلك الأمر، ستلاحق أميركا كل المنظمات الإرهابية أينما وجدت، لتقضي عليها. خصوصا إذا رفضت، أو لم تستطع الدول المتهمة القضاء على الإرهابيين.
ماذا يستنتج من هذه البنود الثلاثة؟
في البند الأول، يبدو ان أميركا ستمنع قيام وصعود أي منافس لها على صعيد الدول الكبرى. من هنا قد يذكّرنا هذا الأمر بما نسيه العالم عن الحروب الكبرى والشاملة.
في البند الثاني، يبدو ان أميركا ستستمر في خوض الحروب المحدودة. ويبدو أيضا أنها ستعتمد الضربات الاستباقية. وهو مفهوم ليس بجديد على العلم السياسي والعسكري، وتحديدا التاريخ الأميركي. ففي العام 0591، وخلال الحرب الكورية، اقترح الجنرال كورتيس لو ماي القيام بضربة وقائية ضد الصين التي كانت تساعد كوريا الشمالية. واقترح الجنرال نفسه أيضا ضربة وقائية نووية ضد الاتحاد السوفياتي. هذا عدا عن موقفه العدائي من الاتحاد السوفياتي إبان الازمة الكوبية. لكن الرئيس ابراهام لنكولن، كان ضد الضربات الاستباقية عندما قال: «لا يمكن ترك الأمر لرئيس قد يقود حروبا بحسب رغبته الخاصة». لكن خطر الضربات الاستباقية الأميركية الحاليّة، ينطلق من مفاهيم أميركية لا يوافق عليها العالم. فالعالم حتى الآن، يختلف مع أميركا في توصيف الإرهاب، ومتى يكون هناك خطر داهم؟ وكيف يمكن تبرير الضربة الاستباقية؟ ومن يبرّر استعمال القوة؟ وتحت أية شرعية؟... ويعيدنا هذا الأمر إلى الاختلاف الجذري في المفاهيم ما بين أميركا وكل العالم، خصوصا أوروبا.
من خلال هذا البند، يمكننا القول إن أميركا ادخلت مفهوما جديدا على القاموس السياسي العالمي المعتمد، والمتعلق بمفهوم السيادة. إذا نفّذت دولة ما الطلب الأميركي بضرب من تراه خطرا عليها ويُصنّف في خانة الإرهاب وهو موجود على أرضها، رضيت أميركا بذلك، لا بل هي مستعدة للمساعدة عن بُعد وعن قُرب، بالمال، كما بالسلاح. لكن تمنّع هذه الدولة عن التنفيذ، قد يعني ان أميركا ستتدخل للتنفيذ بقواها الخاصة، من دون الأخذ في الاعتبار أي احترام لسيادة الدول. إذا المفهوم الجديد يندرج تحت شعار «السيادة المشروطة». لكن الخطر في هذا الأمر، قد يكون أيضا وأيضا في الاختلاف في توصيف ما يسمّى بالإرهاب. فالذي تراه أميركا إرهابا، قد يعتبر لدولة ما عملا تحريريّا. وقد يندرج حزب الله، كخير مثال على ذلك.
أما البند الثالث والمتعلق بملاحقة الإرهاب والمنظمات الإرهابية أينما وجدت، فقد يعطينا فكرة واضحة عن نوع جديد من الحروب، يختلف عن الحرب الشاملة والحرب المحدودة. إنها الميكرو - حروب. في هذا الإطار، تبدو العين والاذن الأميركيتين موزعتين على العالم لرصد الإرهابيين، بهدف ضربهم. ها هي تنتشر في الفلبين بعد أن خرجت منها. كذلك الأمر في جيبوتي، إذ يوجد حوالي 0051 مقاتل من القوات الخاصة. وها هي تدخل إلى افريقيا عبر ليبيريا، وذلك بهدف منع الملاذ عن الإرهابيين. فإفريقيا حديثا كانت مسرحا للحرب بين أميركا والقاعدة. ومن ينسى تفجير السفارتين الأميركيتين، وإطلاق الصاروخ على الطائرة الاسرائيلية؟
كيف تجسّدت هذه
الاستراتيجيّة الكبرى على أرض الواقع؟
يقول الكاتب الفرنسي المهم، ايمانويل تود، في كتابه «ما بعد الامبراطورية» إن أميركا إلى زوال قريب. ويعود هذا الأمر إلى أن الشعب الأميركي يستهلك أكثر مما ينتج محليّا من بضائع وخدمات بما يقارب الـ 054 مليار دولار أميركي سنويّا. وتستوعب التجارة الأميركية سنويّا ما يقارب الـ 568 مليار دولار أميركي رؤوس أموال تأتي من الخارج. وبالنسبة إلى الكاتب نفسه، أصبحت أميركا مثل الثقب الأسود، تبتلع رؤوس الأموال والبضائع، وهي عاجزة عن إنتاج ما يقابلها. من هنا، تبدو أميركا مرتبطة بالخارج لاستهلاكه، وأصبحت كحيوان مفترس. لذلك يعتبر الكاتب ان أميركا تعتمد على عقيدة تقوم على الآتي: اختيار الاعداء الضعفاء. تجنّب الحلول النهائية للصراعات والحروب. إظهار قدرة أميركا المستمرة على صعيد سباق التسلح.
حتى الآن، ما كتبه ايمانويل تود أصبح واقعا. فقد اختارت أميركا أفغانستان، هدفا اول لها على صعيد الحرب على الإرهاب، وهي انتهت منها بسرعة قصوى. انتقلت بعدها إلى الحرب على العراق، وفي الوقت نفسه ملاحقة الإرهابيين أينما وجدوا. لم تنهِ الحرب في أفغانستان، وها هي الآن تعاني من حرب مقاومة في العراق، ولا تعرف سبيلا لإطفائها حتى الآن. وهي ومن وقت إلى آخر، تُسرّب اخبارا عن تجارب يقوم بها «البنتاغون» تتعلق بنوعيات جديدة من الأسلحة. هذا عدا عن فتح أحاديث تطوير الاسلحة النووية، بشكل ان تُستعمل تكتيكيّا ضد أهداف من صنف المخابئ النووية.
إذا ما المتغيّرات الكبرى بعد 11 سبتمبر؟
تبدّل القاموس السياسي العالمي، فأصبحنا نسمع الكثير عن الخير والشر. ودخل الدين أكثر فأكثر في الخطاب السياسي الأميركي، على رغم فصل الدين عن الدولة في الدستور الأميركي. قسّم الرئيس بوش العالم إلى عالمين: عالم الخير وعالم الشرّ. ومن ليس معه فهو ضدّه. ضربت الإدارة الحالية كل أسس النظام العالمي القديم، ولم تضع الأسس البديلة، تاركة العالم يحتار في خطواتها المستقبلية. والمقصود بضرب النظام العالمي، ضرب كل الأسس التي قام عليها من معاهدات ومؤسسات، وخصوصا تلك المتعلقة بإدارة شئون العالم، لجهة الأمن والاستقرار والسلم العالمي. مع الرئيس بوش، جرى تخطّي أهم مرجع أمني، الذي كانت أميركا سبب وجوده، ألا وهو الأمم المتحدة. كذلك الأمر، ذهبت أميركا إلى الحرب على العراق من دون إذن من الشرعيّة الدولية، المسئولة عن السلام العالمي، طبعا مجلس الأمن. وهنا تكمن معضلة شرعنة عملها هذا. وقد يعكس هذا الأمر، ما قاله روبرت كاغان عن مفهومي القوة والضعف. أميركا قوية، وعلى العالم أخذ الأمر في الاعتبار.
قسّم سلوك الولايات المتحدة هذا العالم، ما بين موالٍ ومعارض لهذا السلوك، فأصبحنا نرى تسميات جديدة لأوروبا، بين قديمة وجديدة. كذلك الأمر، بدأت لغة جديدة تتداول على الساحة العالمية، وترتكز على معاداة أميركا (Anti-Americanism )، وعلى كرهها. ففي دراسة استطلاع نشرها مركز بيو الأميركي تتعلّق بنظرة العالم إلى أميركا بعد الحرب على العراق (3002 Views Of Changing World June)، تبيّن ان الكره لأميركا ازداد وارتفع وخصوصا بين الحلفاء. لكن البروفيسور فؤاد عجمي يقول في مقال له في العدد الأخير من مجلة «الفورين بوليسي» ان الكره لأميركا سابق لمرحلة الحرب على الإرهاب، وعلى العراق. فالعالم يكره أميركا، لأنه يكره القوي. أميركا قويّة ومهيمنة على العالم، وهذا أمر يؤدي إلى كرهها.
اثبت 11 سبتمبر ان الاهتمامات الأمنية الاستراتيجية الأميركية، لم تعد في المسرح الأوروبي. وهذا فعلا ما عبّر عنه عميد المفكرين في «البنتاغون»، أندرو مارشال، حين قال إن الحرب المقبلة ستكون في آسيا. وبدلا من ان تنكمش أميركا على نفسها، ها هي تزيد من وجودها وانتشارها في العالم في أكثر من 731 دولة عبر العالم. أدّى 11 سبتمبر إلى تسريع عملية تحديث القوات العسكرية الأميركية، وخصوصا في موضوع إدخال التكنولوجيا الجديدة في الترسانة. ويدور جدل حاليّا بين دونالد رامسفيلد والقادة الكبار في «البنتاغون» بشأن عملية التغيير. هو يريد التغيير السريع والاستفادة مما يقدّمه العلم والتكنولوجيا، والقادة العسكريون يريدون الانتقال التدريجي نحو التغيير الشامل. كذلك الأمر، بدأ العالم، وخصوصا القوى الكبرى، السعي إلى إيجاد السبيل الناجع لوقف هذا الجموح الأميركي نحو المزيد من السيطرة والهيمنة. وظهر من خلال هذه الأمور ان المهمات المستقبلية للقوات الأميركية ستكون على الشكل الآتي:
- القيام بالحملات العسكرية عبر العالم، وحيث وُجدت التهديدات، وهذا ما ينطبق على استراتيجية الأمن القومي.
- حماية أمن الداخل والدفاع عنه عند الحاجة.
- وأخيرا وليس آخرا، القيام بعمليات تثبيت وفرض الاستقرار حيث المصالح حيوية للولايات المتحدة.
وفعلا، تنفّذ أميركا أو نفّذت هذه المهمات الثلاث. فهي قادت الحملات الحربية خارج الأرض الأميركية في أفغانستان والعراق من ضمن مفهوم الحرب الاستباقية والمحدودة، وهي تهتم بأمن الداخل. كذلك الأمر أرسلت أميركا بعض القوى إلى ليبيريا لتثبيت الأمن والاستقرار، وخصوصا أن المسرح الافريقي الجديد للحرب ضد «القاعدة» كان وسيبقى ناشطا.
لكنه، وكما هو معروف، وبحسب التاريخ الأميركي الحربي، فإن القوات الأميركية، قوات تتمتع بحركية كبيرة جدّا، وتقوم عقيدتها القتالية على الهجوم من دون الدفاع، الذي تعتبره مؤقتا خلال الحرب او المعركة. من هنا، نلاحظ الميل الأميركي نحو ايجاد تحالفات مع دول قد تريد لعب الدور الثاني بعد العمليات العسكرية الكبرى، أي عمليات تنظيف ما تركته القوات الأميركية على ساحة المعركة. من هنا نرى التعاون الأميركي مع كل من: بولندا، هنغاريا، رومانيا وغيرها. حتى انه قيل ان القوى الأميركية التي غادرت المانيا، لن تعود إليها، بل ستعود إلى قواعد عسكرية يتم الاتفاق عليها بين أميركا وبين الدول المذكورة.
ماذا عن العالم العربي بعد سنتين من 11 سبتمبر؟
تكمن مأساة العالم العربي في انه مقصود بقسمين اساسيين من استراتيجية الأمن القومي الأميركية. فهو مسرح الحروب المحدودة. كذلك الأمر هو مسرح الميكرو - حروب ضد الإرهابيين. كانت الحرب المحدودة ضد العراق. وجرت الكثير من الحروب الميكرو، اهمها استهداف بعض القواعد المتهمة بالإرهاب في اليمن. العالم العربي متّهم بأنه يأوي يدعم ويمول الإرهاب. والمقصود بالإرهاب، بحسب التصنيف الأميركي له، قد يختلف كثيرا عن التوصيف العربي. لقد حلّ العالم العربي مكان الاتحاد السوفياتي باعتباره عدوّا من الطراز الأول للولايات المتحدة الأميركية. فبعد أن كان السوفيات يشكّلون الخطر الاستراتيجي الأكبر على الأمن القومي الأميركي، ارتقى الإرهاب، بعد سقوط الدب الروسي، إلى المصاف الاول. ويكمن خطره في انه اصبح استراتيجيّا، بعد ان كان تكتيكيّا ومحدودا، وإن تزاوجه مع اسلحة دمار شامل، مع قرار أكيد باستعماله ضد الولايات المتحدة، جعل أميركا ترتعد خوفا. وبدت ضربة 11 سبتمبر نموذجا بسيطا لما قد يحدث في المستقبل، فقرّرت أميركا نقل المعركة إلى أرض الغير. فكان العالم العربي هو المسرح الاساسي المقصود، وخصوصا أن المنفذين كانوا من العرب. وكنا قد رأينا المراحل الآتية في التطبيق العملي للاستراتيجية الأميركية فيما خص العالم العربي، وهي:
- تقسيم العالم الإسلامي إلى كتلتين: شرقية تمتد من الفلبين وحتى الكتلة الهندوسية (الهند). وغربية تمتد من الهند وحتى تركيا، مرورا بباكستان، أفغانستان وكل العالم العربي.
- تطويق واحتواء العالم العربي عبر الانتشار على محيطه عسكريّا. وقد يذكّرنا هذا الأمر باستراتيجية الاحتواء للعالم السوفياتي. فأميركا موجودة في عُمان، الإمارات، الكويت، قطر، اليمن، تركيا... الخ.
- الدخول إلى قلب ومركز ثقل العالم العربي، والمتمثل في العراق، والعمل على تغييره من الداخل.
- تُضاف إلى كل هذه الأمور، السيطرة الجوية، الفضائية، البحرية على المداخل والمضايق. وأخيرا وليس آخرا السيطرة على المعلومات. هذا مع العلم بأن الحرب التي تدور حاليّا بين الولايات المتحدة والمقاومة العراقية، هي أولا وأخيرا حرب الحصول على المعلومات. وهذا ما تعجز عنه أميركا حتى الآن. فهي في حربها على العرب وعلى العراق، ودعمها لـ «إسرائيل»، لم تستطع حتى الآن، ربح القلوب والعقول العربيّة. وهي مهما فعلت ستبقى مكروهة. من هنا تريد إظهار قوتها، كي تبقى مرهوبة الجانب بحسب نصيحة ماكيافيللي. لكنه، وإذا ما استمرت المقاومة العراقية في تحقيق الاهداف في المرمى الأميركي لفترة طويلة، فإننا نرى هذه الهيبة متآكلة، الأمر الذي قد يُغرق أميركا في المستنقع العراقي، فيمنعها من تحقيق استراتيجيتها الكبرى المتمثلة في إعادة ترتيب ورسم خرائط المنطقة. لكننا باعتبارنا عربا يجب ان نعي أيضا، ان أميركا وهيبتها يرتكزان بالكامل على مدى النجاح أو الفشل في العراق. ويبدو انها مصممة على البقاء حتى الآن. فاستثماراتها كبيرة جدّا في المنطقة. وليس المقصود الاستثمارات المالية، بل المقصود وضعها بوصفها دولة مهيمنة. ففشلها يعني سقوط الامبراطورية. من هنا قد نرى أن أميركا مستعدة للهيجان كما الديناصور الجريح، لتضرب يمنة ويسرى. فحذار، لأنه يجب علينا عند التغيير ان نحفظ رؤوسنا وكرامتنا. فهل من سامع؟
العدد 370 - الأربعاء 10 سبتمبر 2003م الموافق 14 رجب 1424هـ