من الطرائف الكلاسيكية المأثورة ان أحد زوار الشهيد حجر بن عدي (رض) في أطراف دمشق دخل المقام فرحّب به القيّم ومشى معه خطوات باتجاه القبر قائلا: «هذا قبر سيدنا حجر الذي قتله سيدنا معاوية»... وهي نكتة ما عادت تضحك أحدا، وانما تعكس جانبا من تعاملنا المتخلف مع التاريخ، الذي شبعنا من الضحك به على أنفسنا حتى عدنا نضحك به على الآخرين!
تحدث الأخ محمود جناحي عن لقاء الشهيدين الشيخ حسن البنا وآية الله الكاشاني (رحمهما الله تعالى)، في سرده بعض الأمثلة المشرفة التي تتطلع إليها الأنفس شوقا وحبا، في زمنٍ تشحُّ فيه النماذج التي ترفع الاسلام فوق المذهب أو الطائفة أو الفئة، فيتحوّل الهم كله إلى الدفاع عن قطعة الأرض التي تقف عليها، وهو أمر مفهوم في ظل الموروث الطائفي الثقيل الذي يصعب الفكاك منه.
مدافعون عن الحجاج
من هنا ينبغي التسالم على أن الكتابة في التاريخ ليست ترفا فكريا ولا بهرجة إعلامية، وإنما هي أعلى درجات المسئولية التي يمكن أن يتحملها الانسان في مجتمعٍ مسكونٍ بالإرث التاريخي الثقيل. مجتمع سياسته وحياته وإدارته وإعلامه وكل مناحي حياته تستمد أملاحها المعدنية من نسغ التاريخ. وعليه فليس الحديث عن التاريخ فلسفة مترفة ولا بهرجة وادعاء، وانما هو أفضل مدرسة يمكن ان يتخرج فيها الانسان الذي يريد لمجتمعه كل خير، ألم يكرّر القرآن الكريم كثيرا دعوته ليلا ونهارا على مسامع المسلمين: سيروا في الأرض وانظروا واعتبروا، ولكن السؤال: هل أحسن المسلمون الاستماع للنصيحة؟
إذا أردنا الاستفادة من التاريخ فعلينا أن نقرأه قراءةَ طالبٍ متعلم ولا نحفظه حفظَ طالب بليد. فكم من قصص التاريخ سيقت إلينا وهي مكتوبة بمداد السلاطين، فماذا تتوقعون من سلطانٍ اغتصب السلطة أن يقول عن نفسه؟ ألم يقل الحجّاج بن يوسف الثقفي على منبر الكوفة في تبرير سياسة البطش والتنكيل ان له أهدافا لن يبلغها إلا بعد ان يخوض دماء المسلمين خوضا؟ هذا الوحش الفرعوني الكاسر أين يمكن أن يضعه الانسان: في صفوف البشر أم في حظيرة البهائم والأنعام؟ لكن هناك أصنافا من الناس لا يلحظون المقابر الجماعية والسجون ولا ترى أعينهم قوافل الضحايا المستَعبَدين والمعذّبين في الأرض، وانما يقض مضاجعهم كلمة عابرة تجرح المشاعر الرقيقة لطاغية مستبد!
وفي سياق هذه الدعوة للقراءة المتعقّلة للتاريخ يجب توافر معيار موضوعي، يبتغي الحقيقة وينشد الحق، فيكون رفض الظلم عاما وشاملا، من أية طائفة أو مذهب أو دين. لكن مشكلة البعض انه ينظر إلى الانتقاد الموجّه إلى طاغيةٍ محسوبٍ على جماعته على انه انتقاد للدين على الإطلاق، و«هتك لحرمة المؤمنين» وزلزلة لأركان اليقين. فما مارسه الصفويون من ظلم لا يختلف عما مارسه الأيوبيون أو العثمانيون. ولكن التعصّب يدفع البعض إلى الدفاع المجاني عن بعض الطغاة بغض النظر عما ارتكبوه من إجرام. بل تبلغ الحساسية حدّ الاحتجاج على تسمية عَرَضية لأحد الحمير بالحجاج، فيتصل أحدهم لائما: «لقد اهنتم البشرية»! فاختصر البشرية كلها في هذا المسخ، مع ان القرآن الكريم تحدّث عن أشباهٍ ونظائر أقل إجراما وأقل ولوغا في الدماء من الحجّاج فوصفهم بالأنعام بل هم أضل سبيلا.
الحق بيّن والباطل بيّن، ولكن العناد والمكابرة «الطائفية» يجرّان إلى الموقف الذي عبّر عنه أحد المتعصبين بـقوله لأتباعه: «اننا لا ندري كيف يفعل الآخرون في سجودهم بأعينهم، فعليكم أن تغمضوا عينا وتفتحوا عينا لكي تتجنبوا ما يفعلون»!
الخط الأحمر!
المقصود ان هناك نوعا من الالتباس و«الحساسية» في تعاملنا مع التاريخ، وخصوصا عند الاقتراب من البيت الأموي «المجيد»، وعميده معاوية، وهو ما يحتاج إلى تجرّدٍ وإنصافٍ أكثر مما يحتاج إلى علمٍ واكتشافاتٍ تاريخيةٍ جديدة. فما تركه العقاد وطه حسين والشرقاوي وغيرهم من دراسات وكتابات تفي بالمطوب إلي حدٍ كبير، وهم ليسوا متهمين بالطائفية، التهمة الأكثر تداولا في السوق هذه الأيام. ولكن المطلب سيبقى معلقا على رؤوس المسلمين يتحداهم في إعادة كتابة تاريخهم بموضوعيةٍ وبعدٍ عن التشنج، فمازال التعصب والمكابرة يحشران معاوية في سلك الصحابة، ويبرّئانه من كل خطأ أوخطيئة، ويرفعانه إلي صف النبي محمد (ص) من حيث الحرمة والقداسة، والويل لمن يلمح إلى انه ارتكب معصية صغيرة في حياته، فهناك جماعةٌ مستعدةٌ إلى نقل القضية إلى ساحةالقضاء!
ولا تقف النظرية التبريرية على ادعاء العصمة له عمليا، بل تذهب إلى ان كل ما اقترفه مشروعٌ ومثابٌ عليه، ويسعه الحديث الشريف: «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر»... في نوع من المغالطة الفاضحة والهزء بذكاء القاريء عبر العصور. فبهذه الصورة يتم تسجيل المسئولية عن آلاف القتلى في «صفين» ضد مجهول، وكأن صاعقة نزلت عليهم من السماء فأحرقتهم، وليس حاكم إحدى الولايات الإسلامية تمرّد على ولي الأمر الشرعي والمنتخب حبا في الدنيا، فشقّ الصف وخرج على السلطة المركزية ... وينسى المروّجون لتلك النظرية ان هناك «رأيا آخر» من الإنصاف الاستماع إليه، باتهامه بانه طالب ملك وسلطان وباطل، كما هو المتواتر في أقوال علي (ع)، الطرف الآخر في المعادلة.
أحد المدافعين المتحمسين عن معاوية من «حفَظَة القصص» كان يجلجل بصوته ويستحضر له من المبررات ما لم يحلم به معاوية في حياته، ويحاول ان يبرّئه من أية تبعة مترتبة على حكم ابنه يزيد، قاتل الحسين (ع) وقاصف الكعبة بالمنجنيق، فلما سمعه «عالمٌ قارىءٌ للتاريخ» قال: «يكفي معاوية ان يكون تنصيب يزيد أحد خطاياه». وهو رأيٌ مقاربٌ لرأي الحسن البصري في حديثه عن معاوية ويزيد.
ونقول: يكفي معاوية انه أول من قوّض التجربة التاريخية الإسلامية الأولى وحرف مسارها من الشورى إلى ملك عضوض، وهو أول من «ابتدع» فرض الابناء الطالحين على قلوب الجماهير، وهي البدعة التي مازال العالم الإسلامي يعاني منها حتى الآن في بعده عن لبّ السياسة التي جاء بها محمد (ص) رحمة للعالمين. ومع ذلك لا نعدم من تخصص من أصحاب العمائم في الدفاع الأعمى عنه بما لا يدافع به معاوية عن نفسه. ففي آخر لقطة سجلتها كتب السيرة لمعاوية وهو على فراش موته كان يردد: «ويلي من حِجر، ويلي من حِجر، ان ليلي من حِجر لطويل»... ذلك الرجل المؤمن الذي اقتاده من العراق مع ثلة من أصحابه وحبسه في مرج عذراء على أطراف دمشق، وأصدر أمره بقتله ظلما وعلوا وتجبرا على نهج الفراعنة الظالمين.
ألقاب بالمجان
والمرء العاقل ينبغي ان يقف ليتأمل قليلا في إطلاق اسم الصحابة، فهناك من يوزّع هذا اللقب العظيم على كل من رآى الرسول (ص) في حياته، فهل مجرد رؤية النبي تدخل الانسان في الصحبة وتجعله من العدول؟ كيف والقرآن الكريم يتحدث بصريح العبارة عن قومٍ من أهل المدينة مردوا على النفاق؟ ألا يحتاج المعيار هنا إلى وقفة يستخدم فيها العقل قليلا.
لا تحسبوا الحديث عن التاريخ ترفا ولا فلسفة، وانما هي من صلب الحياة، فمن لم يكن له عمقٌ في الماضي لن يكون له بعدٌ في المستقبل. والحديث عن معاوية ليس حديثا في الفراغ، وانما هي في صلب السياسة العربية اليوم... ولكن أين الفقهاء بالتاريخ؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 369 - الثلثاء 09 سبتمبر 2003م الموافق 13 رجب 1424هـ