يقولون إن الإنسان كائن متفرد... متميز... مدرك لذاته... قادر على الاختيار بين الخير والشر... وهو حر ويملك مسئولية اختياراته وتوجهاته! نظرية جميلة لكنها مثيرة للسخرية... فبنظرة سريعة إلى الحشد المحيط بنا لا نجد أي معنى للتفرد أو التميز أو الحرية، بل ويا للسخرية فإن القلة القليلة جدا التي تجاهد في سبيل التفرد والحرية تقابــل بالحرب والتكفير والرفض من الغالبية التي هي لا شيء على الإطلاق.
تكثر الكتابات في هذا الصدد وتتنوع الآراء ويبقى الحال على ما هو عليه، إنسان اقترب إلى درجة الحيوانية... بل إن بعض الحيوانات الأليفة المدربة هي أفضل حالا منه... أكثر وفاء... وأفضل سلوكا... بل وأشد عرفانا بالجميل لأصحابها. ما هو الطريق إذا للتفرد؟... للتميز؟... لمعرفة الذات على حقيقتها... وبالتالي للحرية بمعناها الحقيقي؟
يأتي مفرد «التفرد» على نقيض «الكثرة» أو «الجمع»... وبالتالي فإن كل من يختبئ في الكثرة ويجد فيها ملجأه الأكيد يبتعد عن التفرد ويتوه في وسط زحام وصخب الحياة، لكي تصبح متفردا عليك أن تجد ذلك المكان الهادئ داخل نفسك، إذ تجدد عهدك مع ذاتك أمام كل منحنى من منحنيات الحياة... وتبحث عن اختياراتك... اختياراتك أنت... أنت وحدك فقط... بعيدا عن الزحام والضوضاء الخارجية، والتفرد وحده هو القادر على أن يجعلك تقول «لا» بأعلى صوتك عندما تريد أن تقولها... أمام رأي الغالبية... أمام السلطة والوصاية... أمام حتى نزواتك وشهواتك.
في جميع قراراتك لن تستطيع إلا أن تحترم تفردك الذي يأخذ بيدك خطوة بخطوة حتى يسلمك إلى إنسانيتك الكاملة... صورتك الأبرع جمالا التي خلقت عليها... والتي وإن كنت تشعر بها وتمر أطيافها عليك إلا أنك لا تقدر أن تتحسسها أو حتى تتعرف على ملامحها الخارجية، وكلما خطوت خطوة أو خطوات كلما ازدادت قدرتك على التعرف على ذاتك... كيانك الداخلي... في وسط الزحام الهائل، وعندما تتعرف على ذاتك... عندها أيضا يمكنك أن تكون مجربا يقدر أن يعين المجربين... بل مرشدا يجذب هؤلاء التائهين الضائعين في غمار بحر الحياة، يجذبهم إلى ذواتهم الحقيقية وإلى تلك الأماكن التي وجدت خصيصا لكل واحد منهم... والتي تنتظر منذ الأزل عودتهم إليها بفارغ الصبر.
قد نظن أن هؤلاء المساكين الدائرين في دوامة الحياة لا يجدون للوحدة مكانا في قلوبهم من كثرة المشاغل والاستهلاك واللهو والازدحام، لكن لتسترجع تجربتك الماضية وعندها ستعرف الحقيقة العارية، فالكثرة لا تخلق أنسا... اللهو لا يعطي السعادة... الازدحام لا يصنع رفاقا... والاستهلاك لا يسد جوعا... لا شيء يطرد الوحدة! إلا التفرد الذي تجاهد لأجله حتى وأنت وحيد فعلا، لا شيء قبل التفرد يجعلك تشعر بمعنى الحياة... حتى العبادة ذاتها وسط العابدين المهللين... لا تجعلك تعرف الإله الحقيقي، لأن الإله الحقيقي إله متفرد، وقد خلقنا على صورته متفردين، وما لم نصل إلى ذلك التفرد، لن نصل إلى معرفة القصد الإلهي لحياتنا، لذلك على كل من أدرك القصد الإلهي لحياته أن يذهب إلى الخليقة كلها، إلى الأرض الخربة والخالية، إلى الظلمة التي ترف على وجه القمر، «وليعلو صوته» ليكن نورا... ليكن تفردا، وليصرخ: اصنعوا أثمارا تليق بالتوبة عن كل تيه وعن كل اختباء في الزحام، اخرجوا من أمانكم الزائف المليء بالضوضاء إلى نوركم الداخلي الهادئ لتعرفوا الطريق والحق والحياة.
العدد 368 - الإثنين 08 سبتمبر 2003م الموافق 12 رجب 1424هـ