بالتأكيد لست معنيا بكل الاتهامات التي تطلق ضد رئيس هذا الشهر للمجلس الانتقالي المؤقت للحكم في العراق أحمد الجلبي، وبالتأكيد أنا من جملة المؤيدين لهذا المجلس لأسباب لا تخفى على اللبيب، فتلك الاتهامات الموجهة ضد الجلبي مكانها نفيا أو إثباتا منصة القضاء، لا أعمدة الصحف.
ولكني من جملة المهمومين بتطور الحكم في العراق، ومن المهمومين بأن الشعب العراقي يجب أن يُمكن لتحقيق مستقبل افضل، بأن يحصل على مجموعة من الضمانات التي افتقدها فترة طويلة من الزمن، وعلى رأسها الحرية والعدالة والأمن.
بسبب ذلك فإني عجبت كل العجب من المقال الذي نشره أحمد الجلبي في الأول من هذا الشهر تحت عنوان «وجهة نظر من العراق» ونشر في صحيفة «الشرق الأوسط».
مجمل هذا المقال أقلقني بشدة، ليس لأن المقال أشار بيد اليقين إلى أن من قتل الشهيد محمد باقر الحكيم، هم بقايا النظام السابق، وليس لأنه قال إن الشعب العراقي يشعر بامتنان شديد للرئيس بوش والشعب الأميركي في المساعدة على تحرير العراق، فتلك شجاعة أدبية يستحق عليها أحمد الجلبي التهنئة.
بعض ما أقلقني في ذلك المقال ما ظهر من خطاب (مزدوج) لم يكن مطلوبا في مقال الجلبي كقوله «لقد رحب العراقيون بالتحرير، ولكنهم رفضوا الاحتلال»! ثم يقول إن «أي استمرار للاحتلال في ظل التحالف يقود إلى مقاومة شعبية قد يوفر قوة سياسية لخطة صدام ويساعده».
كيف يمكن تفسير مثل هذه العبارات، غير أن أحمد الجلبي يقع في أخطاء الخطاب السابق نفسه؟ ان استمرار الاحتلال يؤدي إلى مقاومة، وهو خير العارفين، فالتحرير قد تم ولكنه يحتاج إلى تثبيت وأن الاحتلال يحتاج الى وقت كافٍ من أجل أن يستقر العراق، ولو افترضنا جدلا أن القوات الأميركية قد قررت ترك بغداد و العراق غدا، فإن الثمن الذي سيدفعه العراق بين العراقيين وفي الجوار، هو أفدح ما دفع حتى الآن، قد يقود ذلك إلى حرب أهلية لا يعرف أحد مداها ونتائجها، وقد يقود ذلك إلى تقسيم العراق في نهاية المطاف وتدخل عدد من الدول في شئونه.
ليس مطلوبا بسبب موقع أحمد الجلبي أن يظاهر ويقبل أو يرحب بالاحتلال، ذلك مفهوم لمستقبل العمل السياسي، ولكنه أيضا مطلوب منه ألا يقع ضحية المزايدة، ولو أن الأفضل أن يبدأ النظام العراقي الجديد ورجاله بطرح تصوراتهم الفكرية بعيدا عن الوقوع في أخطاء السياق الفكري القديم نفسه، الذي أورث العراقيين أولا، ومن ثم المنطقة كل هذا العذاب والأهوال.
إلا أن الأفدح أن التناقض في الخطاب الذي يبدو أن الجلبي قد تبناه، يذهب للقول «إن قوات الاحتلال تحتاج إلى أن تتحرك سريعا لاعتقال واستجواب آلاف الأشخاص من البعثيين وفدائيي صدام والأعضاء السابقين في أجهزة الأمن والجيش بالإضافة إلى اخوانهم وأبنائهم وأبناء اخوانهم وأبناء عمومتهم، ويستطيع المؤتمر الوطني العراقي أن يقدم قوائم بأسماء هؤلاء الأشخاص وأماكن وجودهم».
عفوا يا أستاذ أحمد، هل قلت اخوانهم وأبناءهم وأبناء اخوانهم وأبناء عمومتهم! ماذا تركت من الشعب العراقي في ظل معرفتنا بأن النظام السابق أجبر بعض الشرفاء في أن ينضووا تحت ابط ذلك الحزب الجهنمي من أجل المسايرة وأكل العيش. وحتى لو افترضنا جدلا أن كل هؤلاء مذنبون لأنهم انضموا إلى الحزب، فما ذنب أهلهم وإخوانهم وأبناء عمومتهم الذين عددتهم أيضا من المذنبين قبل أي دليل يذكر؟!
ثم ما الفرق إذا بين نظام سابق أدانه كل عاقل، وبين ما تدعو إليه من ممارسه؟، قد يصبح الفرق جدا بسيطا بحيث لا يرى ولا حتى بالمجهر! ويعود العراق من جديد إلى خلف الستار القمعي الذي عانى منه كل الشعب العراقي.
ثم يقول أحمد الجلبي في ذلك المقال «يجب على قوات التحالف أن تحيط بهذا البلد وتمنح السكان مهلة ثماني وأربعين ساعة كموعد أخير لتسليم الأسلحة غير المشروعة، ويتم بعدها التفتيش من بيت إلى بيت، وإذا ما عثر على مخبأ أسلحة في المنزل، فإن كل سكان المنزل من الرجال بين أعمار خمسة عشر إلى خمسين عاما، يجب اعتقالهم، وستكون عمليات التفتيش مفيدة في العثور على المجرمين الفارين».
هذه الوصفات التي يقرر الجلبي أن تتبع ويعتقد أنها وصفات للخروج من المأزق الحالي الذي يمر به العراق، هي ما تسمى عادة بالوصفات «الكارثية».
لا أعرف دور أحمد الجلبي في السابق في نصح الأميركيين غير ما نشر في العلن، من أن له آذانا صاغية في واشنطن، ولا أحد يستطيع أو يريد أن يصادر على الجلبي آراءه في كل ما يحيط بوطنه من أزمات. ولكن حكما على ما كتب بيديه أو ما أرسل للنشر، فإني اعتقد أن الجلبي ربما تحت ضغط الظروف، واغتيال سماحة المرجع الديني الكبير الشهيد محمد باقر الحكيم كتب ما كتب.
يبدو أن حزب المؤتمر الذي يرأسه الجلبي، وينتظم في صفوفه عدد من العقلاء لم يطلع بعض قادته على ما عزم أحمد الجلبي على نشره، لأن فيهم أشخاصا - وقد عانوا ما عانوه من تعسف من النظام السابق - لا يريدون أن يكرروا تلك الأمثولة، أن اقتلوهم مع أبنائهم وعائلاتهم! ذلك وضع بشع، كل من يحب العراق لا يريد له أن يتكرر ولو بأبسط الاشكال، فكيف يدعو إليه أحمد الجلبي وعلى الملأ!
الخطاب الحقيقي الذي يجب أن يعلن ويتابع هو اتحاد العراقيين، كل العراقيين ضد المخربين، وهم أولئك الذين يؤجلون استقرار العراق، وهو خطاب من الضروري أن يكون صريحا وواضحا، ليس باتجاه القتل والملاحقة، بل باتجاه ترسيخ قيم جديدة.
أليس من الملاحظ أنه في ظل الاحتلال لايزال بعض من عمل مع النظام السابق في مواقع متقدمة طليقا، لأنه ليس هناك اتهام محدد ضده، وتلك حسنة وسابقة، كما يلاحظ أن قوات الاحتلال قد قدمت الاعتذار في أكثر من مناسبة، لأنها قامت باحتجاز أبرياء أو تعريضهم للضرر، إلى درجة أن بعضهم حصل على تعويض ورسالة اعتذار.
الوضع في العراق صعب ومعقد، ولكنه أيضا من أجل بناء عراق جديد، لا يجب - تحت أي ظرف - التهديد أو النصح بإعادة أساليب النظام السابق كما يُقرأ من مقالة الجلبي آنفة الذكر، وان حدث ذلك فإنه عود على بدء.
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 368 - الإثنين 08 سبتمبر 2003م الموافق 12 رجب 1424هـ