استقالة محمود عباس (ابومازن) من رئاسة الحكومة الفلسطينية الأولى بعد أشهر قليلة من تكليفه، تشير إلى ازمة عميقة لا تقتصر على مستوى علاقات السلطة الداخلية وإنما اساسها انسداد آفاق الحلول البديلة بين السلطة والاحتلال. فمشكلة عباس الحقيقية ليست بينه وبين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وإنما بينه وبين الاحتلال.
وضعت حكومة ارييل شارون مشروع ابومازن في زاوية حادة وطالبته بسلسلة شروط قاسية كان من الصعب عليه تنفيذها اذا لم يبادر الاحتلال إلى تقديم تسهيلات وتنازلات. فشارون ضغط على عباس في الكثير من النقاط الحساسة مثل مطالبته بتجريد الفصائل الفلسطينية من السلاح واعتقال عشرات الناشطين السياسيين ومطاردة كل من يعترض على الاحتلال، وغيرها من قضايا وطنية تمس السيادة والأمن والاستقلال.
وشارون طالب عباس بمحاربة سلطة عرفات والاقتصاص من انصاره وعزله في مقر رئاسته ومنعه من التحرك والاتصال، والمشاغبة عليه في مختلف الشئون، وغيرها من مسائل تنتقص من صلاحيات الرئيس... كبادرة حسن نية مقابل وعود من رئيس الحكومة الاسرائيلية تتعلق بالانسحاب الجزئي من بعض المدن والمناطق في الضفة والقطاع.
شارون اشترط على عباس ان يعلن الحرب الأهلية ويدفع السلطة نحو مواجهة دموية مع مواطنيها وان يشن حملة اعتقالات ومطاردة لكل من يفكر في مقاومة الاحتلال، ثمنا لمجموعة تنازلات لا قيمة لها ولا ضمانات سياسية بإمكان استمرارها.
وهذه الشروط من الصعب على عباس القيام بها حتى لو فكر وخطط لمثل هذا المشروع. فهذا المشروع يعني بكل بساطة اعلان حرب على الشعب الفلسطيني بالنيابة عن شارون وتنفيذ مشروع الاحتلال بأدوات فلسطينية.
مقابل ماذا؟ مقابل مجرد وعود شارونية قيل انه اعطاها ضمانات له في حال نفذ ما طلبه منه. وشارون كما هو معروف، من كبار القتلة ويكذب كما يتنفس ومن الصعب قبول ما يقوله لأنه ببساطة يمكن ان يتراجع عن كلامه بذريعة من الذرائع. هذا اذا افترضنا ان عباس يملك الامكانات والطاقات لتنفيذ خطة شارون. فالموازين على المستويين السياسي والأمني ليست لمصلحة عباس. وفي حال قرر الأخير خوض معركته ضد الشعب الفلسطيني فإن الهزيمة ستكون من نصيبه... حتى لو دعمه الاحتلال بالمال والسلاح.
طالب شارون عباس بمشروع يصعب على الأخير تنفيذه حتى لو دعمه الاحتلال. فالمشكلة لم تكن في عدم رغبة عباس في الذهاب بعيدا في تصادمه مع عرفات والفصائل الفلسطينية، وإنما في عدم قدرة عباس على تحقيق رغبته نظرا إلى ضعف امكاناته وتقلص شعبيته. فالمعركة تحتاج إلى أكثر من تأييد شارون وحماس جورج بوش وطاقمه. انها معركة سياسية أساسا وليست أمنية. وحتى ينجح عباس في تحرير رغبات شارون - بوش في تأسيس حرب أهلية فلسطينية، كان على الاحتلال بدعم من واشنطن تقديم بعض التنازلات (ولو شكلية) إلى حكومة عباس حتى تتذرع بها أساسا لإعلان مواجهة ضد الفصائل الفلسطينية.
حتى التنازلات الشكلية رفض شارون تقديمها إلى عباس، من نوع فك الحصار عن مقر عرفات والسماح له بالتحرك ومغادرة الأراضي المحتلة والعودة إليها... أو تنفيذ بعض الانسحابات النوعية من بعض المدن والمناطق الفلسطينية، أو من نوع وقف بناء جدار «الفصل العنصري» الذي يصر شارون على استكمال تشييده داخل الاراضي المحتلة.
استقالة عباس وتكليف عرفات أحمد قريع (ابوعلاء) بتشكيل الحكومة الثانية في أقل من أربعة أشهر، تشير إلى وجود أزمة أكبر من الأزمة الوزارية. فالمشكلة في الاحتلال ورفض شارون الانصياع للقرارات الدولية وعدم استعداده لتنفيذ بعض الانسحابات الشكلية التي نصت عليها «خريطة الطريق».
حاول شارون اصطناع أزمة حكومية من خلال الضغط على عباس ودفعه نحو تشكيل سلطة برأسين تنتهي في الأخير إلى نوع من الاقتتال الأهلي الفلسطيني الذي يريح الاحتلال ويساعد «اسرائيل» على تحقيق مشروعها.
هذا لم يحصل لأسباب عدة من بينها عدم توافر عناصر كافية لتفجير حرب أهلية، وتمسك شارون بسياسة الاحتلال الدائم.
هناك فعلا أزمة فلسطينية... ولكنها أزمة مع الاحتلال وليست ازمة وزارية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 368 - الإثنين 08 سبتمبر 2003م الموافق 12 رجب 1424هـ