جميل أن تكون لدينا غرفتان للتشريع من أجل تحقيق ضمان للتوازن، والتأكيد على مواءمة القوانين وطبيعة احتياجات المجتمع، وجميل أن تكون السلطة التنفيذية شريكا في التشريع بمنحها سلطة تقديم المشروعات بقوانين، في حين تعطى السلطة التشريعية الحق في تقديم مقترحات بقوانين. ولما لا فالسلطة التنفيذية تملك من أجهزة التشريع وأدواتها ما لا يتوفر للسلطة التشريعية، فشراكة كهذه لا تضر بمبدأ الفصل بين السلطات الذي نص عليه الدستور. وبالرغم من المآخذ التي يراها البعض على هكذا نظام إلا أن شركاء التشريع تمكنوا من إنجاز قوانين عدة متوافقة وتطلعات المواطنين، ومتناسقة في مجملها مع المواثيق الدولية التي التزمت بها وصدّقت عليها مملكة البحرين. إلا أن الأمر لا يقف عند هذا المستوى بل يتعداه لمعرفة الحد الفاصل بين الصادر من هذه القوانين والنافذ منها. وللإجابة على كثير من التساؤلات التي تثار بين فينة وأخرى بهذا الخصوص دعونا نلقي نظرة على عيّنة من مواد لبعض القوانين الصادرة للتحقق من مدى تفعيلها وتطبيقها على الواقع المعاش.
وحيث أن الدستور هو المصدر للتشريع، من الواجب الاستئناس ببعض من مواده بهذا الخصوص. ولكون الثروة والاقتصاد هما المصدر الرئيسي لمعيشة الإنسان فقد وجب البدء بهما.
أولا: نصت المادة (11) من الدستور على أن الثروات الطبيعية جميعها ومواردها كافة ملك للدولة، تقوم على حفظها وحسن استثمارها. وحيث إن الأرض والبحر هما المصدر الرئيسي للثروات الطبيعية فمن الطبيعي أن تعود ملكيتهما للدولة وفقا للدستور. إلا أن الواقع يعكس لنا تجاوزات صارخة لهذا النص الدستوري متمثلة في مصادرة أجزاء كبيرة من الأراضي والسواحل والبحار لصالح ما يطلق عليهم بالمتنفذين. فإذا بنا أمام جزر جديدة تنشأ لصالح مشاريع خاصة على مساحات شاسعة من المفترض أن تكون ملكا للدولة، وأمام جزر طبيعية مغلقة وسواحل خاصة بامتداد رقعة الوطن وجميعها خارج ملكية الدولة بالمفهوم المتعارف عليه. وعندما نبحث عن مسوغ لمثل هذه التجاوزات لدستور ارتضيناه لأنفسنا لا نرى سوى مفارقات صارخة بين ما نشرع له وما نفعله على أرض الواقع.
وفي وضع كهذا تصبح مهمة التخطيط للعام 2030 كما أعدت من قبل الحكومة هي في غاية الصعوبة بسبب عدم معرفة الحدود الفاصلة بين ما هو ملك للدولة وما هو ملك لجهات نافذة.
ثانيا: نصت المادة (18) من الدستور على أن الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.
وبالرغم من ذلك يبرز التمييز الصارخ أمامنا، ويصر المنتفعون من هذا الوضع البائس والشاذ على عدم لزوم إصدار تشريع يجرّم التمييز، بل يرون في قانون كهذا مصدرا للتمييز. فالوضع الطبيعي بالنسبة لهؤلاء هو تهميش الآخر وحرمانه من المشاركة الحقيقية في حماية وطنه وإدارة شئونه، وفي عزله وحتى الحجر عليه من السكن والتملك في بعض مناطق ربوع وطنه. وكل ذلك في نظر البعض لا يتعارض ونصوص الدستور الذي لا يرون حاجة لتفعيل مواده. فإذا كان هذا البعض يرى في القوانين الوضعية ما يتعارض وقيمه الإسلامية فهل تجيز شرائع السماء للإنسان تهميش أخيه وقهره وتغريبه في وطنه؟ فأية مرجعية دينية أو أخلاقية هذه التي يستند إليها هذا النفر الذي يرفض إصدار قانون يفعل مواد دستورية تنص على العدالة والمساواة وتحرم ممارسات التمييز بين شركاء في الوطن واللغة والعقيدة؟ أليست هذه مفارقات لا تقرها سوى شريعة الغاب؟.
ثالثا: كفلت المادة (23) من الدستور حق التعبير عن الرأي مع عدم المساس بأسس العقيدة الإسلامية، ووحدة الشعب، وبما لا يثير الفرقة أو الطائفية. وإذا افترضنا جدلا أن التمييز لا يثير الفرقة ولا يؤثر على وحدة الشعب، فأن قيام درويش مهلوس بتكفير طائفة تشاركه التوحيد بالله ورسله وقرآنه من على منبر إسلامي، ومقارنتها بالصهيونية ثم تلوذ الجهة المعنية بالصمت، فهل بالإمكان تفسير هذا الصمت بغير الرضى؟ وإذا كان غير ذلك فما الذي يحول دون تفعيل القانون لمنع الفرقة؟ فإذا وقفنا عاجزين عن وقف مثل هذا السلوك الشاذ وغير المسئول فكيف ندعي النجاح في توطيد أواصر التسامح، وفي سعينا الدؤوب لبناء مجتمع متعدد الأجناس والطوائف والأعراق وفي التزامنا بالتقريب بين الأديان؟ وفي الوقت ذاته نقف عاجزين عن التقريب بين أبناء الدين واللغة والثقافة والوطن الواحد، ومستعيضين عن ذلك بالتعويل على فرد من الأقليات هنا وآخر هناك لنواري سوءاتنا في الداخل، متناسين أن الحقيقة التي لا غنى عن استيعابها هي أن راحة النفس والضمير والسكينة لا تكمن في هذا ولا ذاك بل في تأسيس حقيقي لدولة القانون.
رابعا: اشترطت المادة (13) من قانون الخدمة المدنية على المتقدم لشغل وظيفة عامة لزوم اجتياز الامتحان الخاص بشغل الوظيفة. كما الزمت المادة (14) من القانون ديوان الخدمة بالإعلان عن الوظائف الشاغرة في وسائل الأعلام المحلية. وهنا وجب علينا سؤال ديوان الخدمة عن عدد الوظائف التي شغلها في جهازه، ناهيك عن الوظائف في الأجهزة الحكومية الأخرى وفقا لهذا القانون، وعن أنواع الامتحانات التي اجتازها من شغلوا الوظائف الشاغرة، وعن اللجان التي وضعت وأشرفت على هذه الامتحانات وإشعارات النتائج التي أرسلت لمن لم يوفقوا فيها، وإعلانات الوظائف التي تم نشرها وذلك عملا بالقانون. فإذا انحصر التفوق والنجاح والتعيين في دائرة مغلقة فإن القانون قد تم ختمه بعبارة وقف التنفيذ.
خامسا: نص القانون رقم (53) للسنة 2006 على اعتبار خليج توبلي محمية طبيعية تمتلكه الدولة بأكمله، واستلزم وقف جميع أنواع الدفان وتحديد معالم حدوده وإعداد الخرائط لمساحته في مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر من تاريخ إصدار القانون. كما ألزم القانون الجهات الحكومية المختصة بالمحافظة على سلامة البيئة في الخليج وتطوير الحياة الفطرية فيه. ورغم مرور أكثر من عامين على صدور القانون وانقضاء مهلة الثلاثة أشهر التي حددها القانون لأعداد الخرائط المحققة إلا أن الخليج مازال مرتعا للمخلفات التي تضخها محطة المجاري التابعة لوزارة الأشغال التي ملأته بالرواسب وحولته من بحر أزرق إلى بحر أسود، وبدلا من تملكه من قبل الدولة بحسب ما جاء في القانون أصبحت جلّ مياهه المغمورة ملكا خاصا لما يطلق عليهم بالمتنفذين. وهكذا يختم هذا القانون أيضا بعبارة وقف التنفيذ، لنطوي صفحة من تاريخ هذه الهبة الإلهية التي منحها الخالق لهذه الأرض لإثراء طبيعتها واسترزاق أهلها، وبالرغم من كل ذلك مازلنا نتغنى بقوانين أصدرناها لحماية بيئتنا.
هذه عيّنة من قوانين صدرت وبقيت أغلب موادها غير نافذة على أرض الواقع لأسباب عدة من بينها عجز السلطة التشريعية عن تحمل مسئوليتها الكاملة في المساءلة الجادة للسلطة التنفيذية. فما الحكمة من إصدار قانون ثم نناور لتجنب تطبيقه؟ ألا يعتبر هذا السلوك استخفافا بسلطة التشريع وتقويضا لدولة القانون التي كثيرا ما تفاخرنا بها في المحافل الدولية؟
لن نتطرق لأسباب فنية تعرقل تطبيق بعض القوانين كحاجة البعض في الجهات التنفيذية للتدريب لاستيعاب وسائل وإجراءات تطبيق القوانين الجديدة، والتي غالبا ما تنتهي في أدراج المسئولين، ليستمر الموظفون في المستويات الأخرى في العمل بالإجراءات التى سبقت صدور القانون. فمثل هذه المعوقات بالإمكان تجنبها بقليل من الاهتمام والوعي الإداري. فالمعضلة الواضحة للعيان تكمن في عدم قناعة البعض بضرورة سيادة القانون في مجتمعنا لكون ذلك يتعارض وأجنداته ومصالحه الضيقة، متناسين أن تعطيل تفعيل القانون سبب لانتشار الفوضى ولارتفاع نبرة التطرف على صوت العقل من مختلف الأطراف، واتساع ظاهرة محاولات تقويض النظام العام. وفي وضع كهذا لا يسعنا سوى الأمل في أن يستوعب هذا البعض أن سيادة القانون هي السياج الواقي لسلامة المجتمع، فأي تساهل أو تسيب في هذا الجانب لا يساهم في تحقيق ما نصبو إليه من أمن واستقرار وتنمية
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 2322 - الثلثاء 13 يناير 2009م الموافق 16 محرم 1430هـ