لماذا أخذ عبدالعزيز بوتفليقة المبادرة إلى اعتماد سياسة هجومية استباقية ضد خصومه الفعليين والمحتملين على السواء في السباق على رئاسة الجمهورية. كيف تجرأ رئيس الجمهورية الجزائرية، وهو العارف بحدود اللعبة الداخلية، على ملامسة الخطوط الحمر التي اذا ما تجاوز احدها فإن مصيره يمكن أن يكون عندئذ شبيها بمصير أحد أسلافه، الشاذلي بن جديد؟ ماهي الأوراق الأساسية التي يمسك بها ساكن قصر المرادية ورهاناته الداخلية والخارجية، حتى يذهب بعيدا في تحدياته لشخصيات وقوى فاعلة على الأرض طالما حسب لها ألف حساب في الصراعات الدائمة على السلطة؟ أخيرا ما الأسباب التي تقف حتى الآن وراء صبر المؤسسة العسكرية؟ أسئلة ستحاول «لاغازيت دوماروك» الاجابة عنها بالتحليل والمعلومات.
منذ مطلع أغسطس /آب الماضي، لاحظ المراقبون ان الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة فتح عدة جبهات في آن معا. واعتبر هؤلاء أن اعتماد نهج هجومي موسع على هذا النحو ستكون له انعكاسات سلبية سريعة لن تصب حتما في مصلحته وخصوصا أنه لا يملك كل السلطات ولا الأدوات التي تخوله صد الهجمات المضادة التي يمكن أن تأخذ طابع «كسر العظم» أو ردات الفعل السياسية الموضوعية في أحسن الأحوال. ويقيد العالمون ببواطن الأمور في العاصمة الجزائر، بأن المحيطين به من المستشارين في طليعتهم شقيقه و«بيت سره»، سعيد بوتفليقة الممر الاجباري في القصر الرئاسي، اضافة إلى العقيد رشيد عيسات، المكلف بملف القبائل، ومسئول الاستخبارات الخارجية الجنرال اسماعيل العماري- الذي يحرص على الابتعاد عن الواجهة ووزير داخليته يزيد زهوني، ووزير الطاقة والمناجم، شكيب خليل الذي يحمل الجنسية الاميركية - قدموا إليه في منتصف شهر مايو/ أيار تقريرا موحدا كشف عن وجود مخطط يستهدف ارباكه وتحجيم لكل من يتعاطف معه من الطبقة السياسية وأوساط الأعمال، وبالتالي تفكيك قواعده المتمثلة بلجان الدعم في المناطق والولايات، وذكر التقرير عينه أن اللجنة المركزية لحرب جبهة التحرير الوطني - ذات الغالبية في البرلمان - وأمينها العام الذي هو في الوقت نفسه الوزير الأول، أي علي بن فليس سيلعبان دور حصان طروادة هذه العملية. لكن الأهم و،الذي تسرّع بانتقال بوتفليقة من الدفاع إلى الهجوم، هو ما ورد في التقرير لناحية الدور الذي يلعبه رئيس «دائرة الدراسات والأمن» (ما كان يعرف في الماضي بالأمن العسكري) الجنرال توفيق مديانفي تعبئة وحشد القوى المناهضة، ناهيك عن دعمها بالوسائل كافة بما في ذلك المعلومات بشأن علاقات الرئاسة بأطراف ومؤسسات داخلية وخارجية. وكان تدخل مديان وجهازه على هذا النحو بمثابة جرس إنذار لبوتفليقة الذي تدارس الأمر مع مستشاريه وامتداداتهم في القطاعات كافة، وتم التوافق بناء عليه على رد الصاع صاعين، بحسب أحد المقربين منه فما كان الا أن وجه رسالة رسمية بصفته وزيرا للدفاع إلى كل من توفيق مديان واسماعيل العماري - هذا الأخير المتناغم معه - مذكرا بمواعيد ذهابهما للتقاعد وضرورة التشاور معه في البدائل المقترحة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، اذ طلب بوتفليقة من مديان تقريرا مفصلا عن وضعية جهازه لافتا الى ضعف ادائه في الفترة الاخيرة. استفزاز معلن لم يتقبله الرجل القوي في النظام، دفع به إلى الرد على طريقة المخابراتية بتسريب ملفات إلى وسائل الاعلام وتشجيع شخصيات سياسية على التهجم عليه وعلى اخوته، وبدأ المسلسل.
تبادل الضربات
الرد الأول جاء عبر تسريب ملف يتعلق بتورط الرئيس مع رجل الأعمال الإماراتي علي الشرف - صديقه منذ أيام اقامته في أبوظبي - وتشير المعلومات التي تضمنها هذا الملف الذي نشرته احدى الصحف اليومية الجزائرية على حلقات، الرئاسة سهلت انتزاع عدة مشروعات بطرق ملتوية بعيدة عن العمليات المتعارف عليها لناحية استدراج العروض، وأرفقت هذه المعلومات ببعض الوثائق الأصلية، فلم تمض فترة وجيزة على ذلك حتى طلب بوتفليقة من وزيره الأول حليفه ومدير حملته الرئاسية علي بن فليس الذي قيل إنه مرشح للرئاسة، حسم موقفه تجاهه ماذا وإلا فما كان من هذا الأخير التي اعتبر هذا الموقف تهديدا إلا أن قدم الاستقالة بعد التشاور مع «السلطة الفعلية» التي على ما يبدو، نصحه بأخذ مسافة عن صديقه القديم والعودة إلى الاحتماء والاهتمام بالحرب واستعدادا للجولات المقبلة.
ولم تتوقف المساجلات على هامش الصراع الاساسي اذ تخللتها محاولة انقلابية من داخل الحزب قامت بها مجموعات موالية لبوتفليقة لم تمن بالنجاح. في المقابل، واجهتها تحركات عمالية قادها الاتحاد العام للعمال الجزائريين انتهت الى اضراب شل البلاد، مظهرا مكامن ضعف الرئيس قاعديا. ما حدا به إلى الرد عبر اللجوء إلى ترفيع عدد من ضباط الصف الثاني في الجيش كسبا لتأييدهم لصفه في السباق الرئاسي واستمرت الأوضاع على هذا النحو من المد والجزر حتى ضرب توفيق مديان ضربته التي جعلت من فرائص بوتفليقة ترتعد. في التاسع من أغسطس نشرت صحيفة «الخبر» ملفا بالأسماء والأرقام عن تقاسم مسئولين كبار في الدولة أملاك وزارة الخارجية من فيلات فاخرة واقامات بحيث شملت الجميع من دون استثناء بمن فيهم المستشار برئاسة الجمهورية الجنرال العربي بلخير الذي يقف حتى الآن ممسكا العصا من وسطها علما بأنه صانع الرؤساء، ويعود الفضل اليه في اقناع الجيش بقبول بوتفليقة الذي قال عنه وقتها الجنرال خالد نزار إنه الأفضل بين السيئين، ليعود ويقول يوم أجرت معه «لاغازيت دوماروك» الحديث الشهير: «إنه اليوم الأسوأ بين السيئين». بعد ذلك بقليل، نشرت صحيفة أخرى ملفا عن تحويل أرصدة عائدة إلى شركة «سوناطراك» لصالح شراء شقق فخمة ومكاتب خاصة لأخوة بوتفليقة ولشكيب خليل ولوزير الداخلية زرهوني، وغيرهم، كذلك استخدم جزء من هذه الأموال لتمويل الحملة الانتخابية التي بدأها الرئيس الحالي باكرا. الأمر الذي أفقد هؤلاء جميعا توازنهم ودفعهم إلى التحريض على الرد على رغم دخول أطراف عدة على الخط للتهدئة وتفادي الأسوأ، وخصوصا أن الجزائر تمر بأزمة بعد الهزة الأرضية التي ضربتها. ففيما نجحت هذه الأطراف في لجم حدة بعض القضايا الحساسة مثل ملف «رفيق الخليفة» وفضائحه التي على ما يبدو، قد تورط بها الجميع، لم تنجح هذه الأخيرة، في إيجاد قواسم مشتركة بين المتنازعين، تساعد على تأجيل المعركة الدائرة لبعض الوقت أو حتى وضع قواعد لها تجنب البلاد والعباد ما يمكن أن ينجم عنها من تبعات خطيرة.
من جهته، بقي الجيش «الصامت الأكبر» حتى الآن مراقبا ما يجري من دون أن يكلف نفسه عناء توجيه إشارات صارمة كعادته يحذر فيها من مغبة الاستمرار في هذه الحلقة المفرغة التي تسهم في تدهور الأوضاع، ذلك في الوقت الذي تستمر فيه المواجهة مع المتطرفين الإسلاميين، وفي حين أن مشكلة مناطق القبائل لم تجد حلا جذريا لها. وشهدت الأسابيع القليلة الماضية تحولا في طبيعة الصراع بدأ يأخذ شكلا مغايرا يمكن أن يهدد بمواجهات ميدانية مباشرة واسعة النطاق من الصعب معها ألا يحرك الجيش ساكنا - ما يحاول تحاشيه حتى الساعة - ويتركها تتفاعل، هذا إلا إذا كانت لديه خطة حسم نهائية جاهزة، كذلك، مبرراتها أمام الرأي العام الغربي أولا، والداخلي ثانيا. ولا تنظر «السلطة الفعلية» بعين الرضى إلى لجوء جماعات بوتفليقة إلى استخدام القوة للسيطرة على بعض مراكز الحرب في المناطق، ولا لتشكيل ما أسماه أحد رموز حرب التحرير والمناهض اليوم لبوتفليقة القومندان عزالدين بـ «الشرطة السرية» التي دخلت منزله وسرقت وثائق ومستندات منه، ما أدى إلى اتخاذ الصراع شكلا مختلفا اليوم. إذ افتتح رئيس المجلس الشعبي الوطني الجزائري (الغرفة الأولى في البرلمان)، كريم يونس، يوم الأربعاء الماضي الدورة الخريفية بخطاب اتسم بالتحدي لبوتفليقة من دون أن يسميه. وفي إشارة انتقاده لهذا الأخير، أكد يونس أنه «لا يمكن لأحد أن ينصب نفسه وصيا على الغير، ولا حكما يقرر بداية المباراة وأشواطها ونهايتها» ونشرت بعض الأوساط لجوء رئيس المجلس لاتخاذ هذا الموقف، إلى معلومات مفادها أن بوتفليقة يستعد لإعلان حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة بعدما اكتشف أن الأمور تسير في غير صالحه، والنية في تعزيز دور «البوليس السري» الذي يقوده زرهوني شخصيا.
أوراق اللعبة أو نقاط القوة
تترك تحركات الرئيس بوتفليقة، التي لا تخلو في غالبيتها من التحدي، وفي بعض جوانبها من الاستفزاز، أسئلة عدة تتركز في مجملها على الأوراق التي يملكها التي تسمح له بالمقارعة على هذا النحو الحاد. وهو الذي يعلم، بخبرته الطويلة التي كسبها في السلطة، تحديدا في كنف الرئيس الراحل هواري بومدين، بأن تجاوز واحد من الخطوط الحمر المرسومة من قبل «السلطة الفعلية»، يعني نهايته السياسية على الأقل. مع ذلك، لم يتراجع حتى الآن عن تصميمه على خوض معركة التجديد لولاية ثانية وبالشروط التي يحاول إقناع أصحاب القرار بها من دون فرضها. في هذا السياق، تفيد بعض الأوسط الجزائرية غير البعيدة عن هؤلاء، بأن الرئيس الجزائري يراهن بل يعتمد في معركته على عدة أعمدة. كما عمل منذ وصوله إلى الحكم على تقويتها بكل الوسائل كي تصبح مع الوقت ميزانا أساسيا من موازين القوى الأخرى الموجودة على الساحة. تشعر «السلطة الفعلية» أي الجيش بأهميتها وبضرورة عدم الاستغناء عنها. فكان أن أنشأ حلقته الضيقة المؤلفة من شقيقه، صمام الأمان بالنسبة إليه «سعيد»، الذي عمل في العمق على نسج علاقات وطيدة مع قسم من الضباط الصغار الذين تم ترفيعهم لاحقا، والذي تولى أيضا مهمات إنشاء خلايا لعبت دور وزارات ظل في كل الحكومات في عهد أخيه. ومن يزيد زرهوني، وزير الداخلية، ابن المخابرات العسكرية الذي تربى في أحضان قاصدي مرباح، الذي اتخذ القرار يوما بإعدامه سياسيا وجسديا عندما تجاوز الخطوط الحمر. كذلك العقيد رشيد عبسات وخصوصا اسماعيل لعماري الذي لا تربطه برئيسه توفيق مديان أدنى علاقات ود. لكن بوتفليقة لم يفلح على رغم الجهود التي بذلها، في كسب الجنرال المتقاعد العربي بلخير إلى صفه. لأن هذا الأخير ببساطه وهو المحنك سياسيا، الذي يملك شبكة من العلاقات الخارجية المهمة، ويشكل جزءا لا يتجزأ من المؤسسة العسكرية الأم، لا يمكن أن يحتسب في أي وقت من الأوقات على أي رئيس صنعه بيديه. في السياق عينه لم يتمكن أيضا من تحييد الجنرال المتقاعد محمد تواتي، هو الآخر مستشار بالقصر الرئاسي.
ويراهن بوتفليقة فيما يراهن على شريحة من رجال الأعمال الكبار، سقط منها في الآونة الأخيرة حجر كان يأمل أن يشكل يوما زاوية، أي رفيق الخليفة، بكل ما كان يمثل من ثقل مالي ومصرفي، وأيضا بدايات علاقات عامة ناجحة في الخارج تطورت بفعل مصرفه وشركة طيرانه وأخيرا تلفزيونه. إلا أن احتياطه الاستراتيجي المضمون يبقى الملياردير القبائلي آية أدجيدجو المولود في سورية العام 0491، الذي بدأ حياته عاملا في فرنسا لينتهي رئيس مجلس إدارة أحد أكبر المختبرات الدولية في الجزائر، فعدا كونه يمول حملاته الانتخابية ونشاطاته الخاصة من رحلات وولائم لضيوفه في الخارج، فإن ابنه كمال، يسير على الطريق بحيث أسس جمعية وئام الجزائر و«باكستاج» التي تتعهد الحفلات، والتي يعود مردوها بالكامل لدعم حملة بوتفليقة الانتخابية. من جهة أخرى، فشل الرئيس في إبقاء رجل الأعمال إسعاد ربراب إلى جانبه، وتحول الود الكبير بينهما إلى عداء مستحكم تمثل بملاحقة بوتفليقة للصحيفة التي يمولها «ليبيرتيه».
ومن الأوراق الخارجية التي يعتقد أنه يمكنه التعويل عليها، الورقة الأميركية. فمنذ تسلمه الرئاسة، وهو يسعى إلى إلى التقرب من الإدارة الأميركية بأي ثمن، سواء عبر التنازلات التي يعد بتقديمها، لاسيما في مجال قطاع الهيدروكربورات، أو عبر مشاركة بلاده بفعالية في مكافحة الإرهاب. ففي سبيل إرضاء واشنطن، وافق بوتفليقة على إنشاء «مركز مكافحة الإرهاب في إفريقيا» مشابه للمركز الذي أنشئ لآسيا في ماليزيا. كما وعد جورج بوش شخصيا بتمرير مشروع القانون المتعلق بفتح باب الاستثمار الخارجي في قطاع الهيدروكربورات مع إعطاء الأولوية للشركات الأميركية. لكنه فشل في تعهده هذا وأسقط بيده. ولم تنفع محاولات وزيره شكيب خليل، المعروف بعلاقاته الوثيقة بأميركا، في تحسين الصورة، فالورقة الأميركية إذن ليست مضمونة، إذا ما أخذنا في الحساب أن الجيش قطع شوطا في التنسيق مع البنتاغون من خلال التعاون ضمن إطار منظمة شمال حلف الأطلسي. كما أجرى للمرة الأولى في تاريخ الجزائر مناورات بحرية مشتركة في المتوسط. لكن بوتفليقة، بحسب بعض المصادر، يحاول استخدام الورقة الأميركية في حال الفشل، لابتزاز فرنسا التي يعرف قبل غيره أن لها دورا مهما تلعبه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ومن الأوراق الأخرى التي يحتفظ بها بوتفليقة، علاقاته المتميزة مع عدد من دول الخليج العربي، إذ أمضى فيها سنوات عدة عند ابتعاده عن الحكم. فإذا كانت الروابط ليست وطيدة جدا مع المملكة العربية السعودية مثلا، فإنها ممتازة مع كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر وحتى الكويت. لذا، يأمل بوتفليقة من هذه الدول مساعدته في خطواته.
لكن يبقى السؤال الرئيسي والحاسم: هل سيقبل الجيش في نهاية المطاف بولاية ثانية لعبدالعزيز بوتفليقة؟
على رغم تذكير رئيس الأركان الجنرال محمد لعماري - الرجل القوي الذي اتفق عليه قادة المناطق الست، أي الجنرالات: ناضل شريف ابراهيم (بليدا)، كامل عبدالرحمن (وهران)، إحسان طاهر (بشار) صاحب عبدالمجيد (ورغله)، سعيد باي (قسنطينه) وعبدالقادر بن علي (تمناراست) - بأن الجيش لن يتدخل في السياسة والانتخابات وبأن الشعب هو الذي يختار، وبالتالي على المؤسسة العسكرية أن تنحني أمام إرادته حتى ولو كان المرشح المنتخب إسلاميا، فإنه من المرجح أن يتدخل في الوقت المناسب للحسم، خصوصا إذا كانت الأوضاع تتطلب ذلك. وإذا كانت الأطراف قد تجاوزت الخطوط الحمر. فكل الدلائل تشير حتى الآن إلى أن الجيش يترك الأمور تتفاقم ويترك بوتفليقة يتمادى في أخطائه حتى... يسهل ضربه وإزاحته.
العدد 367 - الأحد 07 سبتمبر 2003م الموافق 11 رجب 1424هـ