العدد 366 - السبت 06 سبتمبر 2003م الموافق 10 رجب 1424هـ

الحضور اللبناني في العراق

النموذج الطائفي... ومقاومة الاحتلال

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

يشكل لبنان وتجربته المعاصرة مرجعية واضحة في العراق الحالي، فكثير من النخب السياسية والثقافية والاجتماعية العراقية تستعير الكثير من حيثيات تجربة لبنان السياسية ونموذج نظامه وتجربته في التعددية والتنوع وحربه الاهلية ومقاومته للاحتلال في المقارنة لما يشهده العراق. والأكثر من ذلك ان مستقبل العراق بات مرهونا الى حد ما برجال لبنان في العراق، وكيفية تعاطيهم مع العراق الحالي.

وقد تواتر الحديث بشكل متزايد في الصحافة العراقية وفي الاوساط السياسية وبين النخب الثقافية خلال الايام القليلة الماضية عن «اللبننة»، لا سيما بعد الاعلان عن تشكيل اول حكومة عراقية في ظل الاحتلال. اذ اعتبر تقاسم المناصب في هذه الحكومة بين مختلف الفئات الدينية والعرقية فيما يشبه النموذج اللبناني. وعلى رغم تباين الآراء بشأن هذه الحكومة إلى درجة تبدو في نظر البعض خطوة مشؤومة باتجاه دولة ضعيفة تقوم على اسس طائفية غريبة على التقاليد العراقية، فإن بعضا آخر اعتبرها تحركا معقولا في غياب بدائل ديمقراطية بعد ثلاثة عقود من الانغلاق البعثي.

ولكنها بنظر معظم العراقيين حاكت في تركيبتها النموذج اللبناني للممارسة السياسية، وعلى النحو الذي بدا فيه تكوين مجلس الحكم الانتقالي، اعتمادا على منهج المحاصصة الطائفية والعرقية التي ميزت النظام السياسي اللبناني عن سواه من الانظمة السياسية في المنطقة. ورأى الكثير من المحللين ان الاسس التي اعتمدت في تشكيل مجلس الحكم الانتقالي ومن ثم في الحكومة الانتقالية منحت الانطباع بأن العراق يتحول الى دولة طائفية مثل لبنان اذ تبدو القيمة الوحيدة للوزراء هي تمثيلهم لهذه الطائفة أو تلك... وفيما رأى البعض أنه مع اعتماد هذه الصيغة لا يمكن بناء دولة ديمقراطية مستقرة على اسس طائفية، رأى اعضاء في مجلس الحكم ان هذه الصيغة تعكس التكوين العراقي العرقي والديني والاجتماعي من دون ان يتأصل نظام الحصص. بينما حذر مراقبون من ان اعتماد هذه الصيغة قد يتجه بالبلاد إلى «اللبننة»، مذكرين بان الاحتكاكات في لبنان بشأن المشاركة في السلطة عوقت البلاد سياسيا بعد الاستقلال في 3491 وتفاقمت إلى حرب اهلية استمرت من 5791 إلى 0991. بل ان البعض من دعاة الخبرة بالشئون اللبنانية يزعمون ان احدى سمات النموذج اللبناني ان الجميع يمارسونه، ولكنهم كلهم ضده... نظام كانت له نقائصه وانهار في حرب لبنان، ولكنه دائما يجدد نفسه.

وهذا ما يتجه إليه النظام السياسي العراقي في صيرورته الاولى بعد سقوط النظام الشمولي الذي استمر لعقود اربعة، وان ما يجري تأسيسه وصفة لدولة ضعيفة وسياسة القاسم المشترك الأصغر... ولكنه من ناحية اخرى ضمان لنوع من الاستقرار داخل النظام بوجود ضمان اجنبي. ولا ينسى آخرون القول ان عهد صدام حسين عمل على تدمير كل الولاءات والمكونات الحقيقية سواء للمجتمع المدني او للمجتمع السياسي ليحل بدلها الولاء للدكتاتور، ومن الطبيعي في ظل التدمير لكل هذه المكونات ألا يترك المجال للعراقيين سوى التشبت بالروابط الاضيق وهي الروابط المذهبية والعرقية.

واذا كانت هذه الاستعارات شكلت شكلا من الحضور اللبناني والاستعارات اللبنانية تاريخا وتجربة لتوصيف ما يشهده العراق، فان شكلا آخر تتجه إليه الانظار نفيا أو تحذيرا ألا وهو ما شهده لبنان من حرب اهلية لنحو عقد ونصف من الزمن. فالحديث متواصل بعد الحوادث التي شهدها العراق خلال الاسابيع القليلة الماضية سواء لجهة الاعتداءات التي شهدتها بعض المزارات الدينية في الطوز أو الخالدية أو لجهة محاولة اغتيال المرجع الديني آية الله محمدسعيد الحكيم ثم اخيرا ما شهدته النجف من مجزرة اودت بحياة العشرات من الاشخاص من ابرزهم آية الله محمدباقر الحكيم.

هذه الحوادث اجمالا بدأت تثير هواجس حرب المذاهب والملل، وصارت تطلق التحذيرات مخافة الانزلاق في الحرب الاهلية. وفي كل هذا تبرز تجربة لبنان في حربها الداخلية حاضرة في الهواجس والتحذيرات، وحتى في محاولات النفي واستبعاد مثل هذا الانزلاق.

وبعيدا عن هذه الاجواء المحبطة، فان لبنان ليس غائبا في الاتجاه القائم لتحرير البلاد من قوات الاحتلال. فالنموذج اللبناني للمقاومة التي اجبرت قوات الاحتلال الاسرائيلي على الانسحاب قائم في الخطاب السياسي لرجال المقاومة ومن يؤيدهم. بل ان اجبار المقاومة اللبنانية لقوات «المارينز» على الانسحاب من لبنان في الثمانينات هو بدوره حاضر ودافع للامل بامكان اجبار قوات الاحتلال الانجلو أميركي على الانسحاب عبر عمل عسكري متواصل وعمليات نوعية تنفذها المقاومة العراقية ضد افراد قوات الاحتلال ومقراته.

والحقيقة ان المرء يمكن ان يرصد الحضور اللبناني القوي في الكثير من المفردات والتوصيفات التي لا تعبر بالضرورة عن دقة التوصيف بقدر ما تعبر في الحقيقة عن طغيان الحضور اللبناني. فمثلا هناك من يقارن وضع السنة في العراق مع وضع الموازنة في لبنان. بل هناك من بات يميز بين القوى الشيعية داخل البيت الشيعي العراقي باطلاق تسميات التيارات الشيعية اللبنانية. وهناك من صار يصف المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق بأنه حركة امل في نفوذها وتأثيرها في الساحة اللبنانية في السبعينات ومطلع الثمانينات، في حين يوصف تيار الزعيم مقتدى الصدر بأنه اقرب للتوصيف الى حزب الله اللبناني في نشأته الاولى، وكأسلوب للمقارنة بين مستوى الراديكالية لدى المجلس الاعلى للثورة الاسلامية وتيار الصدر.

وفي الحقيقة ان الحضور اللبناني القوي في العراق يتجاوز مغزاه المعنوي ليأخذ مغزاه المادي والمتجلي بوجود ثلاثة من الرجال المتنفذين في العراق، والذين لهم كلمة مسموعة في الاوساط الاميركية والبريطانية والدولية. وهؤلاء الرجال هم: المسئول العسكري الاول والمسئول عن القوات الاميركية في العراق الجنرال جون ابي زيد، والناطق باسم القوات البريطانية هشام حلاوي، والوزير السابق والاكاديمي الذي يعمل مستشارا لموفد الامين العام للامم المتحدة في العراق غسان سلامة. ومؤكد ان الرجال الثلاثة أخذوا من لبنان أو ما تبقى منه فيهم ليعكسوه في تعاطيهم مع الشأن العراقي.

ويبقى السؤال لماذا هذا الحضور اللبناني القوي في العراق؟

ربما تكون المصادفة وحدها هي التي جمعت بين ثلاثة رجال من اصول لبنانية ليجتمعوا في العراق. ولكن لا يمكن لهذه المصادفة ان تكون رسمت للحضور اللبناني في جانبه المعنوي هذا الدور الطاغي. غير ان النموذج اللبناني في الادراك الجماعي العراقي يعتبر النموذج الأكثر قبولا وقناعة للديمقراطية في العالم العربي عن سواه من النظم العربية التي تحسب على النموذج الديمقراطي. كما ان التعدد والتنوع البارز في المجتمع اللبناني ربما كان الاقرب إلى مثيله للتنوع والتعدد القائم في المجتمع العراقي. وقد يعزى إلى هذين العاملين السبب في ظاهرة الحضور اللبناني في العراق الحالي. ويختلف المفسرون على الاسباب إلا انهم من المؤكد لن يختلفوا على وجود الظاهرة وطغيانها.

العدد 366 - السبت 06 سبتمبر 2003م الموافق 10 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً