العدد 365 - الجمعة 05 سبتمبر 2003م الموافق 09 رجب 1424هـ

حنين العودة إلى توبلي و... السيدهاشم

«روكي»... البحرينية التي هاجر أجدادها إلى إفريقيا

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

في احدى الدول الاسكندنافية إذ يتقاطر المهاجرون العرب والمسلمون يبحثون عن ملاذ آمن يعوضهم عما فقدوه من شعور بالأمان في اوطانهم التي ضاقت بهم ذرعا، ولم تستطع أن تتحمل قدرتهم على الجنوح بخيالهم نحو عالم أكثر دَعَة وسلاما وحرية وانفتاحا وديمقراطية، في تلك الاجواء الشديدة البرودة كان الجميع يبحث عن أي خيط يربطه بالوطن والاحباب.

وبين هؤلاء المهاجرين العرب والمسلمين كانت تكثر اللهجات... وتتلون السمات والسنحات، وكان ذلك يسهّل من التعارف والتقارب بين أصحاب الصفات والاهتمامات المتشابهة ما ساهم في خلق روابط اجتماعية جديدة في وقت قياسي بين هؤلاء الوافدين.

وعلى رغم أن كثيرا من المهاجرين كان حريصا على أن يعيش بعيدا عن الضوضاء، بعيدا عن التجمعات والتجمهر مخافة أن تكبر جريرته... فلا يسمح له بالعودة إلى بلده مطلقا، اقتناعا من هؤلاء بأن أجهزة الأمن العربية كانت تطاردهم حتى في المنافي البعيدة، على رغم هذا الاحساس بالغربة المركبة فإن بعضا منهم كان شَغُوفا بالتعارف والانفتاح على الآخرين والتقارب معهم.

«روكي»... كانت من النوع الأول... تسير في حالها، تتجنب الاختلاط إلا في حالات الضرورة، وكان اسمها الغريب عن العربية نوعا ما يحيطها بهالة من السحر والغموض، ما يجعلها تشعر بالأمن بصورة أكبر، ولكن هيئتها و وجهها الدائري وعينيها كانت تدل على منبتها العربي، وحتى ألوان ملابسها والحلي التي كانت تتزين بها في المناسبات، لقد كانت حريصة على ارتداء ملابس عربية، وحلي منقوش عليها بعض التعابير السلطانية العمانية. كما أن طيبة قلبها ودماثة أخلاقها وكرمها لا تترك مجالا لأحد بأن يشك في انتمائها العربي الصميم.

وفي المحيط ذاته الذي كانت روكي تعيش فيه كان المغتربون العرب يلتقون بعضهم والآخرين من الجاليات المسلمة في كثير من الأماكن، لقد كان على الجميع أن يتعلم اللغة الاسكندنافية، وكان على الجميع أن يتقن صنعة أو مهنة يتعيش منها، على رغم أن الدولة المضيفة كانت كريمة جدا مع هؤلاء العاثري الحظ.

على الجانب الآخر، كان أحمد واحدا من العرب الأوائل الذين قدموا الى هذه المدينة، وكثيرا ما كان يدخل في سِجَالات وحوارات من اجل التقريب بين المغتربين العرب والمسلمين بغية تخفيف شدة الغلو فيما بينهم والتقليل من وَطْأة الغربة وما تخلفه من حزن ومزاج ضيق وسريع الانفعال، لقد كان لديه إحساس كبير بالمسئولية، وكان يعمل دائما على ان يتناسى المسلمون خلافاتهم والفروقات المذهبية بينهم، وخصوصا أنهم في بلاد الغربة.

على رغم انتمائه الى المذهب الجعفري الامامي فإنه كان يحرص على الصلاة في مسجد المدينة الكبير إذ كان امام المسجد من مذهب آخر... وقد ساعده ذلك كثيرا في خلق جو من الود والمحبة والتفاهم بين مختلف ابناء الجاليات والمذاهب الاسلامية المنتشرة في ذلك البلد الاسكندنافي. أحمد كان واحدا ممن شردتهم الحوادث عن بلده البحرين، وبعد سنوات من الغربة والترحال حطت به الاقدار في البلد الاسكندنافي ذاته الذي قصدته روكي... لقد كان موعدا في الغربة رتبته العناية الإلهية.

في احد أيام الجمع حيث تقام الصلاة المسجد الكبير كان أحمد... يصلي... وما أن انفتل من صلاته وراح يسلم على من حوله ويتعرف عليهم مقدما نفسه على أنه من البحرين... حتى اقترب منه شاب داكن البشرة، قال له بلهجة عربية كسرت مفرداتها سنوات الغربة والترحال: أنت من البحرين؟ فأجاب أحمد نعم... قال الشاب الآخر: أنا من افريقيا... ولدينا هناك الكثير من الأسر من جذور بحرينية، قال أحمد مستغربا: بحرينيون في افريقيا!! عاجله الشاب الافريقي: ان بعضا منهم هنا يسكن بالقرب من المسجد، ولديهم ابنة تدرس في الجامعة، ربما تعرفها؟ ألم تسمع باسم روكي؟ قال احمد: لقد سمعت بهذا الاسم... بل والتقيت صاحبته وتحدثت معها... ولكنها لم تخبرني بأية علاقة لها بالبحرين؟! أجاب الشاب: ربما لم تكن الفرصة مواتية لذلك...!

حيرة تسيطر على قلب وعقل أحمد... لقد قابل روكي في الجامعة وهي تدرس معه اللغة الاسكندنافية، وحين تحدث معها كانت الانجليزية لغة التواصل... ولكنه قال لنفسه: غدا سأباغتها بهذه الأسئلة... أتعرّف عليها واسمع قصتها.

نام تلك الليلة وهو ينتظر نور الصباح بفارغ الصبر، وما ان حان أوان صلاة الفجر حتى استيقظ من نومه نشطا يمتلئ شبابا وحيوية... وبعد أن انتهى من الصلاة وقراءة القرآن ألقى نظرة خاطفة على ساعة الحائط... وإذا هي تقترب من موعد الجامعة، هبّ مسرعا... وارتدى بعضا من الثياب الدافئة... وما هي إلا دقائق حتى وصل الجامعة باكرا.

قال احمد لنفسه، أرجو أن تأتي روكي مبكرة هذا اليوم حتى أتمكن من استيقافها والاستفسار عن هذا الموضوع الذي بات يقلقني... لقد وصلت... وقبل أن تتوجه إلى الفصل... سارع أحمد مناديا: روكي... روكي... أقبلت باتجاهه... نعم أحمد... ما الذي جاء بك مبكرا إلى هذه الدرجة... تبدو كمن نام هنا طيلة الليل.

لا عليك... ليس هذا هو الامر المهم، قالت روكي: وما الأمر الأكثر أهمية...؟ استجمع أحمد قواه وبادرها بالسؤال: من أي البلاد أنتِ...؟ أنت تعلم أنني من افريقيا؟! لقد سبق وان اخبرتك بذلك يوم التقينا للمرة الأولى، نعم... أعلم ذلك لكني أقصد إلى أين تنتهي جذورك...؟ هل صحيح أنك تنتمين إلى البحرين...!؟

ارتسمت على وجهها علامة الدهشة... والمفاجأة وبان الارتباك على تعابيرها... لقد حرك أحمد بداخلها هواجس وهموما وذكرى سعت جاهدة لكي تتغلب عليها بالنسيان، وها هو بلا أية مقدمات يعيدها الى الواجهة، ولكنها أجابت بكل ثقة: ومن أين أتيت بهذه المعلومات؟! غير مهم الآن، سأخبرك لاحقا، أجاب أحمد: ولكن أرجو أن تؤكدي أو تنفي هذه المعلومات أولا.

قالت روكي: نعم... أنا أنتمي إلى البحرين... ولكن ذلك الأمر مرت عليه سنوات طويلة... وعلى رغم أنني لاأزال أتوق إلى أرض أجدادي... فإنني قد فقدت الأمل في ذلك، وبدأت في التكيف مع حياتي التي لم أعرف غيرها، على رغم أن الناس في البلد الذي أعيش فيه لايزالون ينظرون إلي وإلى أهلي باعتبارنا أغرابا وأجانب، هل تتخيل أن يكون لك وطن لا تعرفه... وطن لم تطأهُ قدماك... ولم تتنفس هواءه ولم ترَ نخيله أو عيونه أو بحره، وطن تقرأ عنه في الصحف والمجلات والكتب، وتسمع حكاياته من الناس الذين تصادفهم او من خلال الذكريات التي يحملها من يربطونك بهذا الوطن العصيّ على الوصول.

لقد عرفت بلدي عبر القصص التي نقلها والدي عن آبائه وأجداد، ولكنني لا أعلم إلى أي مدى تتطابق الصورة مع الواقع الآن، ان الأمر محير جدا ويثير في نفسي الشجون والألم.

ارتسمت على وجه أحمد ابتسامة حزينة وقطب حاجبيه، ولكنه مع ذلك شعر بشيء من الرضا والاعتداد بالنفس، لقد وجد في الغربة كنزا من التاريخ يكاد أن يختفي، وها هو الآن وجها لوجه أمام قصة أغرب من الخيال... لذلك لم يترك لنفسه العنان في الانسياق وراء أفكاره... بل بادر بتوجيه سؤال آخر إلى روكي: لقد قابلتك مرارا وتحدثنا... ولكنك لم تذكري شيئا عن هذا الأمر... لماذا... هل تتنصلين من أصولك؟ أم هي محاولة للنسيان؟

اغرورقت عينا روكي بالدموع... وقالت: أبدا... الأمر ليس كذلك... وارجو ألا تكون قاسيا وأن تصدر حكما أقسى من الايام والظروف التي نعيشها قبل أن تعرف الحقيقة، ألست تتذكر أنني حين تقابلنا أول مرة سألتك عن موطنك... وعندما أخبرتني أنك من البحرين سألتك مرة أخرى... هل لديك الأمل في العودة إلى البحرين، وعندها أجبت بأنك واثق من العودة وأنك تعمل على ذلك ليل نهار، فما كان مني إلا ان ابتسمت وسرحت بذهني قليلا ولكننا تجاوزنا الموضوع.

أحمد: حصل ذلك... ولكنك... لقد كان بالامكان أن تخبريني بقصتك أيضا...، أجابت روكي: حين اخبرتني أنك تأمل في العودة... كانت نفسي تحدثني قائلة اما أنا فقد فقدت الأمل في العودة! لأنني أمثل الجيل الرابع الذي يولد في الغربة... هناك في افريقيا حيث أسكن... احتفظنا بكل شيء... أنشأنا مدينتنا الخاصة بنا... حافظنا على تقاليدنا وعاداتنا وتراثنا، شيّدنا بعض القلاع... وأحطنا مساكننا بأسوار مناسبة... ومارسنا كل ما كان يمارسه أهلنا في البحرين من مراسم داخل حدود هذه القلاع والحصون التي تحيط بها.

هل تعلم أن والدي... الحاج خليل هو أحد خطباء المنبر الحسيني وانه لايزال يحفظ أبيات بن فايز وآخرين ويلقبونه دائما بـ «الملا خليل بن حسن البحراني»!

انتابت أحمد القشعريرة واهتز كامل بدنه وهو يستمع إلى هذه القصة، ولكن روكي واصلت نحن ننتمي إلى قرية يقال لها «توبلي»، وكنا نقطن بالقرب من السيدهاشم التوبلاني!.

أليست لديكم هذه الاسماء في البحرين يا أحمد؟... بلى... بلى... ولكن أخبريني... كيف وصلت إلى افريقيا... وكيف استوطنت هناك وما قصتك؟

أنت تصرّ على إثارة أحزاني ونكء الجروح لدي، هل تعلم كم هو قاس أن أتذكر ذلك؟ علي رغم انني لم انسَ أبدا، لقد واظب والدي واجدادي على تذكيرنا بجذورنا جيلا بعد جيل، وحافظوا على ارتباطنا بأرض الاجداد التي لم نرها قط وربما لن نراها ابدا.

قال لي والدي نقلا عن آبائه وأجداده... انهم حين غادروا البحرين منذ عشرات السنين كانت البحرين تتعرض لإحدى الغزوات القاسية، ما دفعهم الى الهجرة أولا إلى بندر عباس في إيران، ثم من هناك هاجروا مرة أخرى إلى عمان حيث تنقلوا بين مطرح وصور، ولـمّا لم يستقر بهم المقام...هاجروا مرة ثالثة إلى افريقيا، لكن جدي كان قد تزوج من احدى النساء الرومانيات في عمان وعندما وصل افريقيا مع غيره من العائلات البحرينية المهاجرة طلبا للأمن والاستقرار أنشأوا هناك قرية خاصة بهم.

كان ذلك في عهد السيطرة العمانية على أجزاء من افريقيا، وما لبث أهلنا أن كونوا مجتمعهم الخاص بهم... إذ شيدوا عددا من القلاع التي تحصنوا بها وجمعوها داخل الأسوار، ثم فرضوا نظاما اجتماعيا صارما، فلا أحد يتزوج من خارج الاسوار والقلاع، وهكذا بدأوا في التزاوج والتناسل والحفاظ على العادات والتقاليد. هل تعلم أن لدينا هناك في افريقيا مأتما وحسينيات ولدينا مساجدنا أيضا، وان عاداتنا وتقاليدنا لاتزال تمتد إلى عادات وتقاليد البحرين، بل إنني استطيع القول إن لهجتنا لاتزال كذلك...أوَلَم تلاحظ اني أحادثك باللهجة البحرينية.

انتبه أحمد لذلك مؤنّبا نفسه على اندماجه في الاستماع إلى القصة من دون أن يلاحظ أن روكي كانت قد استبدلت لغتها الإنجليزية المكتسبة بلغتها الأم العربية بلسان بحريني فصيح! اعتذر منها...وطلب أن تواصل الحديث.

أطلقت روكي لنفسها العنان... وبينما هي تغالب الدموع في عينيها لم تتمالك نفسها من أن تتنهد تلك التنهيدة الطويلة، كانت تنهيدة حزينة مكتنزة بالألم والحسرة والبكاء على أطلال لم ترها أبدا ... ماذا تريد أن تعرف يا أحمد ... لقد نبشت الماضي وقلّبت المواجع ... دعني أختصر لك الحكاية ... حين جاء دورنا إلى الحياة ... كانت العوائل قد تكاثرت ولم يعد ممكنا أن نظل جميعا داخل تلك القلاع ... بل ان جيلنا تمرد قليلا على التقاليد، وخصوصا تلك المتعلقة بالزواج داخل الأسوار، وهكذا كان... بالنسبة لي تزوجت وأنا في السادسة عشرة من عمري، لقد كان زواجا مميزا، فالعريس كان رئيسا لوزراء المقاطعة التي أقطن فيها وبعد أن عشنا سويا فترة من الزمن وأنجبت منه ابنتي التي رأيتها معي انفصلنا لأسباب لا أريد أن أذكرها، وعندما قررت السفر للدراسة والتخصص في العلوم السياسية والاقتصاد كان حظي أن أحط رحالي في هذه البلاد.

هنا في هذه الأجواء البعيدة عن أي من البيئات التي أنتمي إليها في افريقيا وفي البحرين، صادفت رجلا اسكندنافيا، تعرف علي واقتربنا كثيرا فما كان منه إلا أن طلب يدي للزواج، ولما كان هذا الرجل مسيحيا فقد تعذر أن نقترن ببعضنا ... ولكنه قبل فترة أعلن اسلامه وقابل والدي الملا خليل بن حسن البحراني ... وقد عقدنا الزواج على كتاب الله وسنة رسوله ونحن اليوم نعيش في محبة وتفاهم.

بالمناسبة ... ما رأيك لو أعرفك على والدي ... إنه يأتي بين الفينة والأخرى ليزورنا، ومن محاسن الصدف انه هنا الآن ... غدا نلتقي على الغداء ما رأيك؟ استحسن أحمد الفكرة وافترقا، ولكن أحمد ظل يقلب الامور في كل اتجاه ويسأل نفسه: هل استطيع ان افعل شيئا، ثم ما يلبث ان يجيب مادمت بعيدا عن وطني، كيف اقدم اليهم يد المساعدة! انا نفسي بحاجة الى من يساعدني ، مر الوقت ثقيلا على أحمد وطبعا على روكي أيضا.

وعندما حان وقت اللقاء قدمته الى والدها الملا خليل بن الحاج حسن البحراني ... كان لقاء مؤثرا احتضن فيه الملا خليل أحمد كأب يحتضن ابنه بعد طول غياب... تعانقا طويلا، أخذ الملا خليل يسأل أحمد عن البحرين وعن البساتين في منطقة توبلي وعن قرى البحرين بأسمائها وعوائلها، ولكنه عرج مرة اخرى على توبلي مركزا حديثه على السيدهاشم التوبلاني هذه المرة متسائلا عن ضريحه الذى كان محاطا بعدد كبير من القبور في المقبرة الرئيسية لمنطقة توبلي، مشيرا الى ان اجداده مدفونين فيها أيضا، وانه لايزال يقرأ لأرواحهم الفاتحة ولكن... من بعيد!

أصيب احمد بكثير من الدهشة وازدادت حيرته واعتراه شيء من الخجل وكثير من الحزن، فها هو وجها لوجه امام قصة تاريخية لا ينقصها التشويق وعلامات الاستفهام، علامات الاستفهام التي لا يجد لكثير منها أية إجابة... لقد مضى على رحيله هو الآخر عن البحرين اكثر من عشرين عاما، وخلال هذه الفترة زار كثيرا من البلدان والتقى الكثير من المهاجرين والمغتربين من البحرين، ولكنه الآن امام حال تختلف كليا عن كل ما شاهده وقابله، وبينما هو في خياله مسافر، واذا بصوت الملا خليل بن حسن البحراني ينشد أبيات بن فايز مذكرا بفاجعة كربلاء.

وبينما راحت عيون الجميع تفيض دمعا، كان من غير الواضح هل كان البكاء على مأساة الامام الحسين الغريب عن وطنه واهله ام انه كان على مأساة هذه الأسر البحرينية العريقة الغريبة عن وطنها وأهلها... أم هو التاريخ حين تتطابق فصوله وتتكرر مأساته... اندمج الجميع في طور بن فايز وحين توقف الملا خليل عن القراءة... كان أحمد يلملم قواه التي خارت مما عرفه وشاهده وسمعه وخصوصا حين أكد له الملا خليل بن حسن البحراني كل ما سبق أن ذكرته روكي... التي لم يكن اسمها سوى رقية بنت الملا خليل بن حسن بن ابراهيم التوبلاني البحراني.

ودّع أحمد ذلك المشهد وقفل عائدا الى داره... وحين نقل تلك القصة الى زوجته وعياله بدا مشهد حزن آخر... بكى فيه الجميع... ليس على رقية او روكي فحسب فلقد اكتملت اضلاع مثلث الحزن الذى جمع بين كربلاء، افريقيا والبحرين... غربة جمعت الجميع وحزن سكنهم ووحّد آلامهم وتطلعاتهم بالعودة الى بلادهم. أحد أفراد عائلة أحمد كان شديد التأثر من هول ما سمع، وقد انعكس ذلك عليه من خلال نوبة حزن وكآبة عالجها أحمد بكثير من الايمان والصبر والاقتداء بآل البيت وغربة الامام الحسين (ع)، ولكن افكار زوجة أحمد انغمست في قصة روكي حتى الاعماق، لقد تلبستها حالة روكي الى الدرجة التي أخذت تسأل نفسها: هل سيكون حالنا مثل حالها، ويصبح الوطن بالنسبة إلينا ذكرى أليمة وحزينة فقط؟ ما مصير أبنائنا وبناتنا؟ راحت توجه كل هذه الأسئلة وغيرها الى زوجها أحمد... وبينما راح هو يطمئنها ويهدّئ من روعها، قائلا لها: إن ظروفنا تختلف عن ظروف روكي وعائلتها... فالزمن تغير والوضع الدولي اختلف.

ضم أحمد زوجته الى صدره طويلا ثم ربّت على كتفيها قائلا: ألا تلاحظين اننا نربي ابناءنا على أمل العودة، ألسنا نقوم بتعويدهم على عادات أهلنا في البحرين، ونحاول ان نبعدهم عن أجواء الاغتراب؟ ألم نرفض فكرة الاندماج في هذا المجتمع، وقاومناها بكل ما أوتينا من قوة على رغم سيل الاغراءات والتسهيلات التي تعرض علينا صباح مساء؟ ألسنا على اتصال دائم بأهلنا في البحرين من خلال الهاتف والمراسلات؟ ألسنا نقوم باستقبال بعضا من الأهل والاصدقاء هنا وفي بلدان عربية واسلامية اخرى؟

مازالت زوجة أحمد شديدة التأثر والحزن... وكلما مر على القرب منها احد أبنائها... كانت تداري الدموع وتحاول ان تبدو رابطة الجأش... لقد مر وقت طويل قبل ان يتمكن أحمد من إعادة الامور الى نصابها مع زوجته... ولكنه حين عرج على غرفة ابنائه كان عليه ان يكرر كل ما قاله لزوجته لهم... لأنهم جميعا كانوا يعيشون حال القلق والخوف من مصير مجهول... ينتظرهم في عالم الغربة عن الوطن.

كفكف أحمد دموع عائلته، وعاد يمارس حياته المعتادة في بلاد الغربة إذ لابد له من العيش في انتظار بريق الامل الذى لايزال يدغدغ قلبه بالعودة الى بلاده البحرين، وكان يلتقى روكي على الدوام، ولكن حديثهم في كثير من الاحيان كان يقتصر على نظرات الحزن المتبادل بينهما على رغم أنه عرّف زوجته وعياله على روكي وعائلتها، ونشأت علاقة اجتماعية بين الاسرتين تمثلت في بعض الزيارات وخصوصا في المناسبات الدينية والاعياد... ولكن طعم الاعياد في الغربة يكون دائما مرا وعلقما.

أما روكي وابوها الملا خليل فقد عادا الى المكان الذى حكم عليهما القدر ان يرحلا اليه... ولكن حياتهما بعد هذا اللقاء لم تعد كما كانت، ومرت السنون... ثقالا على قلب أحمد وعائلته وكانت ولاتزال أثقل وطأة على قلب روكي وعائلتها... وهي ستظل كذلك الى ان يحكم الله امرا كان مفعولا.

اما أحمد فقد استراح اخيرا في حضن الوطن إذ عاد الى البحرين مع الانفراج السياسي الذى دشنه عهد الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وحين جاء واثيرت قضايا التجنيس تذكر أحمد قصة روكي... قصة البحرينيين في افريقيا... وتذكر كيف ودعته روكي وهي تقول: حين تعودون يا أحمد إلى البحرين ربما يعود لنا الأمل... في العودة... وحتى ذلك الوقت عليك أن تعلم... أنني ومثلي كثير ممن ينتمون إلى أرض البحرين الطيبة قد فقدنا الأمل في العودة!! نعم لقد فقدت الأمل في العودة إلى السيدهاشم التوبلاني!

فإذا عدت اذكرني ... واعمل على زراعة الأمل من جديد... افترق أحمد وروكي... كل في طريق، عاد أحمد إلى البحرين ... فماذا عن رقية ملا خليل بن حسن بن ابراهيم التوبلاني البحراني التي أصبح اسمها روكي... والتي لايزال يقتلها الحنين إلى العودة إلى جوار السيدهاشم التوبلاني.

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 365 - الجمعة 05 سبتمبر 2003م الموافق 09 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 6:54 ص

      بصراحة انا مستغرب و مندهش و الى أول مرة أعرف أن هناك بحارنة في أفريقيا ، لكن سبحان الله و يا محاسن الصدف التي جمعت بين روكي و أحمد لتكشف قصتها مدى الظلم الواقع علينا

    • زائر 5 | 12:08 ص

      رجاء ارفعو واجعلو الموضوع يصبح في مقدمة الصحيفة نظرا لأهميته
      لدي استفسار لم تذكر هذه الدولة الأفريقية التي تسكنها العوائل البحرانية
      شكرا ً

    • زائر 2 | 7:56 ص

      ظلم

      يامنتقم

    • زائر 1 | 12:36 م

      الغربة صعبه

      قصة مؤثرة جدا لم اكن اعلم بأن هناك مغتربون من زمن طويل جدا يعود لاربع اجيال...ساعد الله قلوبهم واتمنى ان يعودوا ويدفنوا في وطنهم الام

اقرأ ايضاً