العدد 365 - الجمعة 05 سبتمبر 2003م الموافق 09 رجب 1424هـ

أبعد من اغتيال الحكيم

محمد العثمان Mohd.Alothman [at] alwasatnews.com

إن عمليات التصفيات والاغتيالات الجسدية لن تؤدي إلى زوال عقيدة أو انتهاء العمل بمبدأ معين. وإذا ما كان المقصود ذلك «فإنه لأمر منطقي برهنت عليه حقائق التاريخ ان الصراع العميق الديني والعقائدي، يجب أن يفصل فيه عن طريق الإجراءات الطويلة الأمد في الاقناع والتجريب الاجتماعي. ولن تبرهن القوة على تفوق عقيدة المنتصرين» ومهما يكن فإن الموازنة بين الالتزام بالمذهب والعقيدة وبين ضبط التصرف والسلوك تجاه المخالف هي في الحقيقة الغاية المثلى التي يجب إشاعتها بين مختلف الطوائف والفرق الإسلامية تحديدا. وإلا فهل يصدق القول بان «التسامح ضد الطبع الإنساني»؟ وانه أبسط لنا أن نكمّم أفواه الآخر، المختلف معنا، ونرجمه بشتى صنوف عبارات التكفير، بل وبزخات الرصاص وتكنولوجيا التفجير عن بعد أيضا.

إن الجرم الشنيع الذي أقدمت عليه جهة مجهولة تنتمي من حيث النوع إلى بني البشر، ولكن تلك المجموعة أبعد ما تكون عمّا يميز بني البشر من إنسانية مرتكزة على مشاعر وأحاسيس وروح متسامحة طاهرة نقية. اغتيالها رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية السيد محمد باقر الحكيم، ذلك الجرم لن يؤدي بأصحابه واتباع اتجاهه إلى الرجوع عن اهدافهم ومبادئهم ومن ثم النكوص عن المنهج الذي أسسه ورسخ دعائمه، ذلك النهج الخالي من التهور المطبوع بالعقلانية والتوازن ونكران الذات وحب الوطن والتضحية بالغالي والنفيس، وأخيرا بالنفس... فتلك الأيدي الملطخة بدماء الأبرياء لن تحصد غير الخزي والندامة في الدنيا والآخرة.

وبعيدا عن من يكون وراء تلك الجريمة وابعادها سواء كانت صراعات مذهبية/مذهبية أم طائفية/طائفية أم سياسية، فلا مبرر لها إطلاقا ولا موجب للرحمة لمرتكبيها. إن هؤلاء المجرمين عديمو الأحساس «وضيقو الأفق ومفتقرون للعواطف والكرامة ووحشيو الطبع لافتقارهم إلى التهذيب»، كما قال رالف بارتون بري.

إن أشد ما يحز في النفس ويدمي القلب هي تلك الأعمال التي يرتكبها بني البشر وضد من... أو مثل الحكيم يغتال؟ هالتني الصدمة عن التفكير وانشغلت ايما انشغال محاولا تفسير ما جرى، في حق إنسان ساهم في العمل النضالي منذ أن كان غلاما يافعا، وتعرض لسبع محاولات اغتيال، وتعرض إخوانه وأهله للتصفيات الجسدية، والدموية التي عوملت بها عائلة الحكيم من قبل انظمة الحكم أشنع من ان تذكر في صحيفة، فجروح عائلة الحكيم كثيرة وكبيرة ومصابها في محمد باقر جليل... ولكن من يصبر القلوب؟ سوى التسليم بمبدأ القضاء والقدر.

لقد اختار المجرمون لقيامهم بالجريمة تلك الأركان، ركن المكان (ركن الزمان) ركن الأشخاص... المكان الحرام وهل المساجد ليست لها حرمة في نظر القتلة؟ أوليس بعد صلاة الجمعة وفي غرة رجب ليس له أدنى حرمة؟ الشخص الحرام، فهل الحكيم ومن كان معه من بسطاء الناس قتلة ومجرمون لكي تستباح دماؤهم؟ ثم إن نزعة الاغتيال والتصفية الجسدية هي لغة العاجزين المجرمين، فحينما تندحر الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق يكون الفيصل أزيز الرصاص، وذلك هو طبع المجرمين ودليل إفلاسهم الفكري وخوائهم العقلي، وفراغ أفئدتهم من الرحمة والإيمان.

وإذا كان الحكيم هكذا يغتال وهو الرجل المتسامح غير المتعصب، فماذا بشأن غيره؟ وما هي لغة التسامح مع غيره ممن يشهد بعصبيتهم ونزعتهم التفضيلية للأنا على الغير؟ وإذا كان الحكيم المعروف بمواقفه المتسامحة يغتال، فإن للجريمة ابعادا أخرى لا تستهدف الحكيم في شخصه فقط، فهي مزدوجة أو متشعبة تحمل عدة وجوه. ولتداعياتها عناصر مختلفة، قد تكون متناقضة مع بعضها بعضا. فمن يقف وراءها أكبر من منفذيها الذين ماهم إلا أداة طيعة وعصابة مجرمة من الجهال.

رحل الحكيم... وبقي منهج الحكيم والمبادئ والمواقف التي تستحق التسجيل كثيرة لهذا الرجل، إلا أن ابرزها، إن لم يكن الأبرز منها، هو رفضه للعدوان والحرب والاحتلال... ومن كان يعلم لو أمد الله في أجله قد يكون في أول الركب حينما يكون آن الاوان لمقاومة الاحتلال مقاومة عسكرية.

رحل الحكيم وخلد ذكراه بمسيرته النضالية سواء في فترة التأسيس للعمل الإسلامي مع آية الله الصدر أو قبل تلك الرفقة، حينما كان يافعا، فهو مناضل في سبيل ما آمن به... مناضل من الطراز الأول شارك في المظاهرات ودخل المعتقلات وتنقل في أرجاء الدنيا باحثا عن نصير لقضيته. ولتخلد ذكرى الحفاوة التي قوبل بها حين رجوعه إلى وطنه... وتخلد دموع مقلتيه حين اعتلى خطيبا في الناس، ورباطة جأشه حين يتكلم عن الاحتلال. وتخليد فاجعة الاغتيال التي كان قبلها بدقائق يروي مشهدها وكأنه الإلهام، وكأنه ملك الموت يخبره عن تلك اللحظة وعن النهاية الوشيكة.

خسرت الساحة العراقية قياديا ورمزا سياسيا بارزا له من قوة التأثير والحجة والمنطق والقدرة على الأداء السياسي ما لا يدانيه أحد في ساحة طائفته الشيعية، فبالإضافة إلى كونه مرجعا دينيا فهو قائد سياسي، ويمتلك مكانة اجتماعية كبيرة يستمدها من الجذر الراسخ للأسرة الطباطبائية العريقة، تلك الأسرة التي طالما قدمت ابناءها قرابين للمبادئ والمثل العليا التي تؤمن بها. وما محمد باقر الحكيم الا حلقة في سلسلة لا يعلم إلا الله وحده أين منتهاها. فالعزاء للأسرة الطباطبائية ولعموم أبناء الأمة الإسلامية ولصديقنا عبدالوهاب الحكيم الذي حل ضيفا عزيزا قبل بضعة شهور على البحرين.

إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"

العدد 365 - الجمعة 05 سبتمبر 2003م الموافق 09 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً