كشف التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الأميركي كولن باول عن وجود خلافات في إدارة البيت الأبيض على السياسة العامة التي يجب اتباعها حيال المسألة العراقية. فالوزير باول طالب بتوسيع مهمة الأمم المتحدة وتعزيز دورها الدولي في العراق وهي خطوة اعتبرت بداية تراجع في الموقف الأميركي الذي انطلق من مبدأ «اما معنا واما ضدنا» وترجم عمليا برفض قبول نتائج البحث عن «أسلحة الدمار الشامل» والتمرد على المؤسسة الدولية وكسر حق النقض والتفرد باتخاذ قرار الحرب من دون عودة إلى مجلس الأمن وعلى رغم أنف الدول الكبرى في العالم.
كلام باول مجرد تصريح صحافي لكنه يشير إلى وجود استعداد أميركي للتنازل عن ثوابت كانت واشنطن ترفض التراجع عنها. فالكلام ليس رسميا ولكنه إشارة إلى نوع من القبول الضمني بتراجع أميركا عن تفردها (تسلطها) الذي تميزت به في السنوات الثلاث الماضية. وباول في هذ المجال هو الوزير الوحيد تقريبا الذي تميز بقليل من العقلانية وسط مجموعة من المجانين الأشرار كادوا أن يستدرجوا العالم إلى نوع من «الحروب الدائمة» ضد كل الدول العربية والمسلمة تحت شعار «مكافحة الإرهاب الدولي» في 04 وربما 06 دولة.
كلام باول مهم حتى لو قيل من باب رفع المسئولية، ومحاولة لاستيعاب الضغوط السياسية التي باتت تثقل كاهل الرئيس الأميركي الذي يطمح لتجديد رئاسته فترة ثانية.
وأهمية كلام باول انه يريد أن يقول إن واشنطن مستعدة لتسويق مشروع قرار دولي يوفق بين نزعة «الأمركة» ونوع من «التدويل» للأزمة العراقية. فالتصريح لا يشير إلى تراجع كامل عن القرار الخطأ. انه نصف تنازل. أي نصف «أمركة» مقابل نصف «تدويل» شرط أن تكون القوات الدولية بقيادة أميركية.
الكلام الجديد أثار عاصفة من ردود الفعل وخصوصا من «دول الضد» التي رفضت أساسا الانجرار إلى حرب مخترعة لأزمة مختلقة. فرنسا ردت بالقول إن الكلام مهم ولكنه ليس كافيا. فهي تريد أن يستتبع باول تصريحه بإشارات عملية تعطي القيادة للأمم المتحدة (مشروع القبعات الزرق) وتكون القوات الأميركية تابعة (ملحقة) بالسياسة الدولية وليس العكس. فالسلطة كما تريدها باريس لمجلس الأمن وليس للبنتاغون.
ألمانيا رددت الكلام الفرنسي واتجهت نحو القول إن الخطوة الأميركية ناقصة وليست كافية لاقناع الشعب الألماني بأهمية ارسال قوات إلى بلد تعصف به التناقضات والاضطرابات والتفجيرات من كل حدب وصوب. روسيا بدورها لم تكن بعيدة عن المناخ الأوروبي إلا أن رد فعلها اتسم بالمزيد من الحماس للكلام الأميركي ورأت فيه بداية جيدة لتسوية أزمة كادت أن تعصف بالتوازنات الدولية وتستدرج القوى الكبرى إلى مواجهة مجهولة لو لم تتدارك العواصم الدولية النتائج الوخيمة المترتبة عنها. والصين أيضا ليست بعيدة كثيرا عن روسيا والأجواء الأوروبية وغيرها من مناخات سياسية تريد تسوية أزمة العراق لا تثويرها مجددا في منطقة لا تتحمل كثيرا نزعات التطرف.
المشكلة في الدول العربية. فهي لاتزال كعادتها في مثل هذه الحالات مترددة وربما «غائبة» عن الوعي. فالدول العربية للأسف تنقصها «روح» المسئولية والقدرة على اتخاذ المبادرة وطرح مشروعها الخاص الذي يقضي بالتفاهم مع أوروبا وروسيا والصين للضغط على الولايات المتحدة ودفعها إلى قبول فكرة «التدويل» حلا مؤقتا للأزمة.
الدول العربية ترفض حتى الآن الاحتلال كما سبق ورفضت الحرب على العراق. هذه نقطة لمصلحتها. والمشكلة تبدأ في عدم توصلها إلى بديل واقعي لمشروع «الأمركة» تكون هي القوة المحركة له بالتعاون مع «دول الضد».
كلام باول ليس كافيا ولكنه خطوة مهمة للمزج بين «الأمركة» و«التدويل» وهذا يبدو من تحركات وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد مسألة غير مقبولة. فالتعارض بين الوزيرين عاد إلى الظهور على خلفية المشهد العراقي الذي كشف عن عجز بنيوي للإدارة الأميركية وفشلها في تحويل فوزها العسكري إلى انتصار سياسي.
التعارض بين الوزيرين يشكل مناسبة للدول العربية لطرح خطة عملها وهي تبدأ من إعادة صوغ التحالف مع دول الضد (فرنسا، ألمانيا، روسيا، والصين إلى حد ما) والمبادرة إلى الدفع نحو صيغة دولية للأزمة العراقية تلعب فيها القوات العربية والمسلمة نقطة ثقل في «القبعات الزرق».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 365 - الجمعة 05 سبتمبر 2003م الموافق 09 رجب 1424هـ