صدرت عن المركز المغاربي للبحوث والترجمة في لندن أخيرا الطبعة الثانية من كتاب «القدر عند ابن تيمية» للشيخ راشد الغنوشي. والكتاب يناقش اشكالية القدر والانسان في ثلاثة مباحث شكلت رؤية أهل السنة والجماعة في معالجة قضية القضاء والقدر والكسب او ما يعرف في الفلسفة الماورائية باشكالية حرية التصرف الانساني. وينتصر المؤلف في بحثه هذا بالاسانيد والحجج لعقائد السلف الصالح، مستعرضا آراء الفرق الكلامية المختلفة، وحتى آراء بعض الفلاسفة القدامى والحداثيين ليبرهن على أرجحية مقولات شيخ الاسلام أحمد بن تيمية، الذي اعتبره أحسن من تكلم في مسألة القدر وجلى مشكلاتها.
ويشير المؤلف في سياق استعراضه لزعماء التجديد الاسلامي، الذين تسلموا راية العلم والعمل والجهاد من يد المصطفى (ص) وهو يودع الحياة مطمئنا، والذين لم يخل منهم عصر، الى بروز اسم شيخ الاسلام أحمد بن تيمية طودا شامخا على رأس المئة السابعة مضيئا طريق التجديد لا لعصره فحسب، ولكن لكل العصور التالية وربما لما وراء ذلك ما استمر دوران الليل والنهار.
ويتوقف المؤلف عند منهج ابن تيمية مستعرضا ومشيدا بمنهجه في الاصلاح، الذي يجعل عقيدة التوحيد أساس البناء كله، ادراكا منه لمكانة عقيدة الالوهية في البناء كله. لذلك انصب اهتمامه الاعظم على تحرير العقل والعقيدة من كل ما خالطهما من آثار فلسفة اليونان وجدليات المتكلمين، وتلبسات التصوف الفلسفي، كما عبرت عنه أعمال وشطحات ابن عربي والحلاج وابن سبعين.
وتطرق المؤلف الى مجاهدات شيخ الاسلام بفكره وقلمه ولسانه ليدحض بحجج بليغة وبراهين دامغة من العقل والنقل، ما احدثته الامة عقائد الجبر ووحدة الوجود والاتحاد والحلول من فساد كبير وضلال مبين، ليعود بعقيدة التوحيد الى صفائها.
واستعرض المؤلف جانبا من حياة شيخ الاسلام احمد بن تيمية، مشيرا الى نسبه وموطنه ونشأته العلمية والمحيط الثقافي الذي نشأ في رحابه وموقفه من مناهج البرهنة على العقائد الاسلامية، اذ كان الاشاعرة والمتأخرون منهم خصوصا، يستخدمون أدوات المنطق والفلسفة ومصطلحاتهما في اثبات العقائد الاسلامية متأثرين بإمامهم ابي الحسن الاشعري الذي نشأ في مدرسة الاعتزال ثم انسلخ عنها. وكانوا يعتمدون في تأويل الآيات التي ظاهرها تشبيه الخالق بخلقه، إذ كان الحنابلة يجرونها على ظاهرها لأنها ثابتة بالنص، ومن ثم كانوا مستهدفين لوصمة التجسيم والتشبيه من طرف الاشاعرة، ومن طرف المتكلمين عموما. وكان الحنابلة يعتمدون في اثبات العقائد بالدرجة الاولى على نصوص الكتاب والسنة وعلى الآثار الصحيحة المروية عن الصحابة والتابعين، يجرون كل النصوص على ظاهرها من دون تعطيل ولا تجسيم. أما العقل فمهمته ان يدلل على صحة ما ثبت نقله من النصوص. وعندهم ان صحيح المنقول لا يمكن ان يتعارض مع صريح المعقول؛ لأن الحق لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضا. فكان على ابن تيمية، وقد نشأ نشأة حنبلية، واشرب منهج السلف واتقن ادوات الحجة، واستوعب حجج الخصوم، ان يتصدى للتيار العام، ويسفه آراءه، ويحاول نسف بناءاته التي استقرت فكان هذا سببا آخر لمحنته واختلاف الخلق في شأنه، ونفور الرأي العام منه.
ولم يغفل المؤلف في سرده لجوانب من حياة ابن تيمية ان يذكر موقفه من التصوف. ويدلل على ذلك بقوله انه على رغم ما عرف عن ابن تيمية من معاداة للتصوف فقد كان في منهجه في الحكم عليهم وعلى غيرهم بعيدا عن طريقة التعيمم، بل انه كثيرا ما اثنى على شيوخهم المتقدمين كالجنيد والكيلاني ممن كانت لهم يد طولى في تربية الأمة تربية ربانية... وانما هاجم شيخ الاسلام التصوف الفلسفي، تصوف الحلول ووحدة الوجود عند الحلاج، وابن عربي، وابن سبعين، والنقوي، والتلمساني. كما هاجم ما تقع فيه فرقهم من بدع مخالفة لمنهج السنة، وعاب على بعضهم موالاتهم للتتار والصليبيين ولكل سلطان. هذه هي اذن المشاغل الثقافية البارزة في عصر ابن تيمية: الكلام وارتباطه بالفلسفة والعقائد، والفقه بمختلف مدارسه، والتصوف او علم السلوك بمختلف اتجاهاته. هكذا ظهرت معالم ابن تيمية الاصلاحية وسطا بين علوم السلف والخلف، بين المحافظة على القديم والمشي نحو التجديد والتقدم. انها الوسطية نفسها التي احيتها الحركة الاسلامية المعاصرة متفاعلة مع ما استجد من ابتلاءات.
يخلص المؤلف في بحثه هذا الى ان ابن تيمية جلا ما اعتبره موقف السلف من مسألة القدر، فكان اقرب الى الاعتزال في اثبات حرية الانسان وان اخذ عليهم جرأتهم على الله، وحمل على الاشاعرة، مؤكدا وفاضحا لجبريتهم، واندراجهم ضمن تيار الجهمية، رابطا بينهم وبين الحلوليين ودعاة وحدة الوجود بوشائج متينة. ولقد اكد خلافا للفريقين على السببية في الكون من حيث ارتباط الاسباب وتأثيرها تأثيرا غير مستقل عن الله. وعلى سبق القدر والعلم مع اثبات فاعلية الاسباب وارتباطها بنتائجها. وعلى قدرة الله المطلقة مع التنزه عن التعلق بالاستحالة والظلم والعبث. وعلى ان مشيئة الله مشيئتان، كونية وشرعية، وهو عادل حكيم فيقع في ملكه ما يحب وما يبغض وكل ذلك بقدره. وعلى ان العبد فاعل حقيقة ضمن الحرية المخولة له فهو مسئول عن مصيره دنيا وآخرة. وان فعالية الانسان انما تتمثل اساسا في فهم الاسباب والتحكم فيها لا السلبية تجاهها، ذلك ان للانسان عقلا وروحا، عبرهما يتحرر من الضرورة ويتدرج صوب الكمال. وعلى ان القدر يؤمن به ولا يحتج به. وعلى ان موضوع القيمة الخلقية وحاجة العقل الى الاستعانة بالشرع في الكشف عن دقائقها.
فمن هنا تبدو الحاجة المعرفية والواقعية الى مثل هذا البحث عميقة وملحة لاسيما ان هناك سوء فهم معرفي عند كثير من المسلمين عن مسألة القضاء والقدر الشائكة. ومن المؤمل ان يزيل مثل هذا البحث بعضا من الغشاوة عن هذه المسألة. والكتاب إضافة مهمة واثراء للمكتبة الاسلامية التي في حاجة الى بحث مثل هذه الاشكالات المعرفية لسبر غورها وفهم مضامينها فهما صحيحا ينجينا من ضلالات الجهل.
العدد 364 - الخميس 04 سبتمبر 2003م الموافق 08 رجب 1424هـ