تصور البعض أنه لما كان الإسلام دين التوحيد، فإن التوحيد ينسحب على كل شيء فيه بما في ذلك المجتمع ومظاهره وتجلياته من نظم وأوضاع وفنون وآداب وعادات وسلوك وأزياء الخ... فلا يوجد إلا نمط واحد في كل مجال من هذه المجالات وهو ما يضع المجتمع الإسلامي في قالب واحد لا يتغير ولا يتطور ولا يتعدد.
وقد يُذكر في هذا الصدد «الوسطية» التى ينادي بها بعض المفكرين باعتبارها الموقف المختار للمجتمع الإسلامي تجاه التيارات المتعارضة يمينـا، ويسارا، شرقا وغربا، وهو تكييف سليم، وقد نص عليه القرآن. فلم يقل القرآن «أمة التوحيد» ولكنه قال«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطا» (البقرة/341). ولكن هذا نفسه لا ينفي التعددية، بل هو يثبتها لأن الوسطية تفترض وجود الإفراط والتفريط، التحلل والتزمت، الإسراف والتقتير الخ... ولا يمكن تصور وسطية حيوية من دون تعددية، وإلا تصبح هي الوسطية الرياضية التى تعني التوسط بين نقطتين أو أنها تتجمد في قالب واحد وتأخذ طابعا ثبوتيا، وهو ما يتنافى مع حيوية ودينامية الإسلام.
ويرى هذا البحث أن التوحيد في الإسلام إنما أريد به الله تعالى وحده، وأن سحب هذه الصفة (الواحدية) على غيره أمر لا يجوز، بل إنه قد يصبح شكلا من أشكال الشرك. لأن الله تعالى قد تفرّد بهذه الصفة، واضفاؤها على غيره شرك به. فتوحيد الله يستتبع تلقائيا التعددية فيما عداه.
ونحن في استخدامنا لهذه الطريقة إنما نتبع الأسلوب الفريد الذي صاغه الإسلام في إثبات الوجوب بنفي ما عداه. والشاهد الأعظم على هذا هو لا إله إلا اللَّهُ فهنا يثبت الإسلام وجود الله في الوقت نفسه الذي ينفي ما عداه ولو أنه قال «الله موجود» هذه الصيغة وإن أثبتت وجود الله، ولكنها لا تنفي ضرورة ما عداه - أي أن يكون له أندادا - في حين أن «لا إله إلا الله» تثبت الله وتنفي ما عداه.
ومن هنا فإن لقب «دولة التوحيد» الذي يرسله البعض في اعتزاز وفخر ليس وصفا سليما من ناحيتيه، فالإسلام ليس دولة، وإنما هو (1) أمة، وهذه الأمة تأخذ بالتعددية لا بالواحدية كما لا يمكن أن يقال «دولة الفضيلة» لأن نصيب الدولة في إقامة الفضيلة أو تعزيزها تافه، بل قد يؤدي تدخل الدولة في هذا المجال إلى المساس به. والتعبير الصحيح هو «أمة العدل» لأن الإسلام بالنسبة إلى التجمع البشري «أمة» ولأن طابعه الرئيسي في القيم الاجتماعية هو العدل.
وقد وضع الإسلام للمجتمع البشري كيفية أوردها القرآن الكريم تقوم على تفاعل ركائز أو قوي. فهناك هداية الأنبياء التي تعين الإنسان على سلوك الطريق المستقيم، وهناك غواية الشياطين التي تلقى به في لجج الشهوات والشرور، وهناك الإنسان نفسه الذي يملك بما غرس الله فيه من عقل وفطرة أن يتجاوب مع هداية الأنبياء، كما يمكن - في حالات أخرى - أن يستسلم لغواية الشياطين بالتفصيل الذي سيرد في هذا الكتاب، فالمجتمع البشري له طبيعة تعدّدية.
والمجتمع الإسلامي لا يشذ نوعيا عن المجتمع البشري، لأن الإنسان مسلما أو غير مسلم، له طبيعة واحدة، ولكن المجتمع الإسلامي يختلف في الدرجة وليس في الطبيعة، وفي بعض التجليات، وليس في كلها، فلا جدال في أن الإسلام قوة خاصة تكيف سلوك المؤمنين به، وفيه من الضمانات ما تحول دون الاستسلام الكامل للشهوات والشرور أو الانسياق وراء خطأ الشيطان. أو انتهاج السرف والشطط، ولكن هذه الضمانات قد لا تحول دون ممارسات أدنى من ذلك لأن للطبيعة البشرية - بعد كل شيء - حكمها وضعفها، ولأن الله تعالى عندما جبل النفس البشرية «أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا».
وأية محاولة لفرض قالب واحد مصمت على المجتمع بدعوى التوحيد الإسلامي، أو حتى الوسطية الإسلامية، وأي تجاهل للعوامل الكثيرة التي تؤثر في هذا المجتمع أو تقف في وجه التعدّدية تكون محاولة محكوم عليها بالفشل بعد أن تستهلك وقتا وجهدا كان البناء الرشيد والقصد السديد أولى بهما وهذه هي قيمة المعرفة، إذ هي تميز ما بين الخطأ والصواب كما تهدينا إلى السبل الموصلة والوسائل الناجحة. فإذا لم تكن لدينا المعرفة بهذا كله تخبطنا وتوزعتنا الطرق وغلبت المماحكة أو غرّتنا الأماني وخدعنا السراب فنمضي طويلا من دون أن نصل إلى شيء.
ولكى لا يحدث هذا وضعنا هذا الدفتر من دفاتر الإحياء، وأن يكون الثالث، بعد الحرية وتثوير القرآن هو ما يعبر عن الأهمية الكبيرة للموضوع في الفهم السليم للإسلام...
الفصل الأوّل: توحيد الله يستتبع التعدّدية فيما عداه
لم يصل دين من الأديان بتوحيد الله إلى الحد الذى وصل إليه الإسلام، وقد أهدرت اليهودية المعنى المطلق للتوحيد عندما جعلت الاهها الواحد إلها خاصا ببني «إسرائيل»، ومن ثم فلا معنى للحديث عن التوحيد في اليهودية. أما المسيحية فقد ألقت ظلالا كثيفة على الاهها الواحد بفكرة الأقانيم الثلاثة، فإذا أريد التوحيد بأجلى معانيه فليس إلا الإسلام.
فالله في الإسلام هو الْوَاحِدُ الأَحَد الفرد الصَّمَدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ولم يكن له كفئا أحد. وقد أسهب القرآن الكريم في عرض صفاته تعالى وكلها تصب في هذا المعنى فهو الذي لا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء. ونهى القرآن عن أن يضرب المؤمنون له الأمثال أو أن يجعلوا له أندادا لأنه لا مثيل له.
وقد أمل الفلاسفة القدامى أن يصلوا إلى الجوهر الفرد الذي لا يتجزأ، وظن بعضهم أنه يمكن الوصول إليه، وأنه سر الكون، ولكن هيهات فقد أثبت العلم الحديث أن ليس في الموجودات والقوى والعناصر جوهر فرد أو عنصر لا يتجزأ فكل شيء يتجزأ إلى مالا نهاية، وكل جزء يرتبط وينفصل عن بقية الأجزاء والجميع يدورون بانتظام أو بالتعبير المعجز «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (الانبياء/12).
وعندما يتحدث القرآن الكريم عن الله الواحد الأحد فإنه يتحدى الإدراك الإنساني على رغم ما يبدو من بساطته وبداهية فكرة الواحدية فما أن بفكر الإنسان حتى يعجز عن تصورها لأنه يعجز عن تصور كيان غير مركب من أجزاء وهو يتصور أنه إذا انتفت الأجزاء انتفي الكيان، ولا يوجد شيء، وليس إلا العدم ومن ثم فإما أن يكون مركبا من أجزاء وإما ألا يكون، وخصوصا أن القرآن يعزز ويعمق فكرة التوحيد وينزهها فنفي عنها كل شوائب التجسيد والتوثين، وأضفى عليها في الوقت نفسه الحياة والقوة والإدراك والحكمة والسمع والبصر و99 اسما من الأسماء الحسنى بجانب الصفة المهمة التجريد...
وعندما يقول الله تعالى عن نفسه إنه «الباقي» أو «الذي لا يموت» فإنه بالتبعية ينفي أن يكون لشيء أو مخلوق هذه الصفة - فكل ما نراه يتعرض للتغيير، وللموت وللفناء - «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (القصص/88). والموت هو مصير الجميع في هذه الحياة الدنيا «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ» (آل عمران/581). «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمْ الْمَوْتُ» (النساء/87).
ولو قلنا إن هناك خالقا غير الله وباقيا غير الله لكان هذا شركا بالله وخروجا عن «التوحيد» الإسلامي لأنه يشرك أحدا فيما خص التوحيد الإسلامي الله تعالى - وحده - به.
وكذلك عندما يقول الله تعالى عن نفسه إنه الواحد الأحد، فمعنى هذا أن ليس في الكون أو المجتمع أحدية، ولكن تعددية يمكن أن تصل إلى مئات وألوف الصور.
وقد ضلّ الفلاسفة وبعض الذين تحدّثوا عن «وحدة الوجود»، ووهم الشعراء الذين تصوروا الله تعالى في الشمس البازغة والزهرة اليانعة والجمال الإنساني فهذه كلها من آيات الله في الخلق في أحسن تقويم، ولكنها ليست صفاته وأبعد منها أن تمس ذاته.
كما ضلّ كل من تصوّر أنه يمكن بحكم إيمانه وتفانيه في حب الله تعالى أن يصل إلى درجة من القرب بالله توجد نوعا من التوحيد فهيهات أنا للإنسان أن يصل إلى هذا ولم يصل الرسول إلا إلى «قَابَ قَوْسَيْنِ» من سدرة المنتهى لأن ما بعد ذلك يخالف طبيعة التوحيد، ويمكن أن يصل إلى حد الشرك.
وعندما يقول الله تعالى في عشرات، أو مئات الآيات انه الخالق، فإنه ينفي بالتبعية أي خلق لغير الله تعالى، ويصبح من ينسب قدرة الخلق إلى غير الله مشركا، وهو الذنب الوحيد الذى أعلن الله تعالى أنه لا يغفره إلا أن يتوب.
وهو لا يكتفي بهذا المعنى الضمني، بل يعلنه مرارا وتكرارا فمن غير الله يخلق، إن كل شيء عدا الله تعالى مخلوق...
ووصل حرص الإسلام على إفراد الله تعالى وحده الخالق. أن حرّم الإسلام في المرحلة الأولى لظهوره التصوير ونحت التماثيل لأنها نوع من «الخلق» يمكن أن يؤدي إلى الوثنية، وخصوصا العرب حديثي عهد بها. فجاء في الحديث «من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة».
ولا يجوز لأحد أن يقول عن سيده «ربّي» ولكن سيدي كما لا يجوز للسيد أن يقول «عبدي» ولكن فتاي...
ولا يجوز لأحد أن يتألى على الله فيقول مثلا «والله لا يغفر الله له»! فمن ذا يتألى على الله، ومن ذا يعلم ماذا سيفعل الله؟.
ورفض القرآن فكرة أن يعبد العرب أوثانا «لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» وندد بالذين اتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله، وفسر الحديث ذلك بأن هؤلاء الأحبار كانوا يحللون ويحرمون، وهذه المهمة هي ما ينفرد بها الله تعالى فقيام الأحبار بها نوع من الشرك.
بل حتى الشفاعة، التى ليست إلا رجاء وسؤالا، لا يجوز إلا لمن أذن الله وبضوابط موضوعة - لأنه إذا عدمت هذه الضوابط فيمكن أن تتحول الشفاعة إلى الشرك أو أن تقارب الشرك.
من هذا نفهم ان ما تطرق إلى بعض الأذهان من وجود مجتمع إسلامي أحادي الطبيعة لأنه يدين بالتوحيد إنما هو لبس ووهم بل مفارقة لأن الإيمان بتوحيد الله يستتبع التعددية فيما سواه، وأن هذه التعددية تصبح أمرا لازما بحكم الواحدية الإلهية، لأنها تعد الضرورة المنطقية أمام الواحدية الإلهية حتى لا تتطرق إثارة من شرك لمعنى التوحيد الإلهي - وفي الوقت نفسه فإن الله تعالى هو الذي أراد هذه التعدّدية ووضع لها آلياتها حتى لا يتطرق الخلل إلى هذه التعدّدية وبهذا نجد التوحيد الخالص بالنسبة إلى الله تعالى والتعدّدية المنضبطة بالنسبة إلى المجتمع.
العدد 364 - الخميس 04 سبتمبر 2003م الموافق 08 رجب 1424هـ