في خطوط متوازية، تجري أنهار الدم المراق من روابي فلسطين إلى سهول العراق، أرض ما بين النهرين دجلة والفرات، لتفتح الطريق أمام ثلاثية الشجن التاريخي: القتل ثم الثأر ليدفن الحزن نفسه في قلوب الناس على مر الأيام...
في خطوط متوازية ومتشابهة أيضا، عرفت أرض فلسطين مع أرض العراق، أكثر أنهار الدم تفجرا جراء القتل والقتال والثأر والانتقام، ليبقى الحزن الدفين مزروعا في العقول والقلوب، علامة على الصراعات التاريخية، وكثير منها دينية ومذهبية، عرقية وسياسية، لعب فيها السلاح الدموي أدوار الحسم، -ولايزال -لأن جذور الصراعات مازالت حية!!
وكما أن فلسطين أرض الرسالات المقدسة شهدت ومازالت صراعات دموية تاريخية، كذلك العراق، كلاهما تعرض ولايزال يتعرض على مر الأجيال لموجات متعاقبة من الصدام الديني والمذهبي والسياسي العسكري، لعبت خلالها العقائد الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية أدوارا نافذة، لم تمنع أنهار الدماء من التدفق عبر الروابي والسهول الخضراء!
ومن صراعات اليهودية مع المسيحية ثم مع الاسلام، إلى الحروب الصليبية الرهيبة، وصولا إلى الاحتلال الصهيوني بآلته العسكرية الدموية الوحشية لفلسطين، جرت حوادث التاريخ هناك، ومن صراعات العرب والفرس، والأموييين والعباسيين، والشيعة والسنة، والعرب والأكراد، وصولا إلى إلى الاحتلال الانجلو - أميركي للعراق، سارت حوادث التاريخ على نحو متواز ومشابه في كثير من الأحيان، وربطت بينهما ثلاثية الشجن، القتل والثأر ثم الحزن الدفين في الأعماق...
اللافت إلى النظر في كل ما جرى ويجري، أن العامل الخارجي والتدخل الأجنبي لعب دورا رئيسيا في إذكاء الصراع وتأجيج القتل والثأر وإراقة المزيد من الدماء، لكنه أبدا لم يكن وحده المحرك الأوحد لثلاثية الشجن هذه، ذلك أن الخلافات الداخلية، الدينية والعرقية والسياسية كانت دائما وأبدا في وجهة الصورة المأسوية.
أليس ما يجري اليوم هو انعكاس حقيقي لهذه المآسي الدموية الرهيبة، التي يلعب بها وبنا الاستعمار الأجنبي العائد بقوة ليفرض هيمنته.
نعم... إن ما يجري سيئ، لكن الأسوأ هو الآتي لأن «البرنامج» لم يكتمل فصولا بعد.
وحين نبدأ بفلسطين أرض الرسالات السماوية المقدسة، نراها تحولت، على أيدي شارون وعصابته النازية، إلى مقتلة دموية رهيبة، تمارس خلالها هذه العصابة الإرهابية المتطرفة، باسم الدولة الصهيونية، كل ما لا تقدر عليه أشد العصابات الإرهابية في العالم، من حيث القتل والاغتيال والتصفية الجسدية العلنية والتدمير المنظم لكل مصادر الحياة للشعب الفلسطيني المحاصر، ما بين الترسانة العسكرية الإسرائيلية المتعطشة إلى الدماء، وبين التأييد والتشجيع الأميركي، ثم بين الصمت والعجز العربيين.
قدمت أميركا «خريطة الطريق» على أنقاض اتفاق أوسلو وخطة تنت ومشروع ميتشيل، واعدة بدولة فلسطينية في العام 5002 إن التزم الفلسطينيون بما تطلبه «إسرائيل»، وأهمه وقف الانتفاضة وتدمير منظمات المقاومة الوطنية بحجة انها ارهابية، لكنها قدمت معها إلى «اسرائيل» تصريحا واضحا ورسميا بأن تفعل ما تراه صالحا لها، وحاميا لأمنها، والمعنى واضح للكافة، استغله شارون وعصابته على نحو ما نراه اليوم، لتبقى شلالات الدم تتدفق إلى ما لا نهاية، سواء بالسلاح الإسرائيلي الأميركي، أو بإثارة الفتنة بين الفلسطينيين ليقاتلوا بعضهم بعضا، وقد بدأت نذر هذا الشر تتطاير.
أما حين نذهب إلى العراق، فالأمر متشابه من حيث شلالات الدم، تلك التي عرفتها هذه الأرض التي ولدت أبا الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، وشيدت واحدة من أعظم الحضارات القديمة - البابلية الآشورية، وازدهرت بالعلم والثقافة، لكن كل هذا الإنجاز الإنساني لم يفلح في حمايتها من تدفق الدماء عبر ثلاثية القتل والثأر والحزن التاريخية، وخصوصا منذ أن تعود الفرس على اجتياحها قديما، ومنذ أن دمرها التتار في مذابح دموية رهيبة لا ينساها التاريخ.
غير أن دولة العراق الحديثة، التي تأسست العام 1291 كإحدى نتائج الحرب العالمية الأولى، لم تعرف هي الأخرى الاستقرار، ولم تغب عنها شلالات الدم المراق، وصولا إلى حكم صدام حسين الذي ارتكب المذابح وأقام المقابر الجماعية شاهدا حديثا على تراث دموي قديم يتجدد، وها هي ثلاثية الشجن - وكم في العراق من شجن مأسوي - تعاود مسيرتها في ظل الاحتلال الانجلو - أميركي، الذي ادعى أنه جاء لتحرير العراق من قبضة الاستبداد الدموي، فإذا به يضع العراق في قبضة الاستبداد الدموي من جديد!!
ولعل المذبحة الدموية المفزعة، التي وقعت يوم الجمعة الماضي، أمام وداخل مرقد الإمام علي (ع) في النجف الأشرف، المركز الأول للشيعة في العالم، وراح ضحيتها آية الله السيد محمدباقر الحكيم وأكثر من ثلاثمئة من القتلى والمصابين، هي المؤشر الأوضح على أن الأسوأ هو الآتي في دراما الشجن وثلاثيتها القتل والثأر والحزن، لأنه يحمل مؤشرات اثارة الفتنة بين السنة والشيعة وبين الشيعة والشيعة!
ولم تكن هذه الجريمة الارهابية، مجرد عمل طائش، أو جاء بتصرف فردي، ولكنه عمل منظم ينم عن تفكير وتدبير وتنفيذ محكم، لا تستطيعه عصابة صغيرة، ولا أفراد مغامرون كالذين ألقي القبض عليهم، إنما فعلته جهة أكثر تنظيما وقدرة، اختارت الهدف، وهو السيد محمدباقر الحكيم أحد أهم الزعماء الشيعة العراقيين، واختارت المكان وهو مرقد الإمام علي في النجف، أحد أهم المزارات الشيعية والعتبات المقدسة، واختارت الزمان وهو بعد صلاة الجمعة الحاشدة في هذا المكان، في وقت يغلي العراق بالفوضى وعدم الاستقرار والانفلات الأمني، مخلوطا بهجمات جريئة للمقاومة العراقية، ضد قوات الاحتلال الأجنبي، الذي فشل حتى الآن في توفير الأمن والاستقرار للعراق.
أصابع الاتهام الأولى وجهت إلى البعثيين وفلول النظام السابق وأنصار صدام حسين، وهذا طبيعي ومتوقع، لأن العداء البعثي للحوزة الشيعية معروف، ولأن آية الله محمدباقر الحكيم كان أقوى خصوم النظام السابق، الذي حكم عليه بالاعدام ففر إلى إيران إذ أسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية العام 2891، وذراعه العسكري، فيلق بدر، وأصبح أهم قوى المعارضة العراقية، والرجل ظل في المنفى لأكثر من اثنين وعشرين عاما، حتى عاد في مايو/ أيار الماضي، بعد الغزو الانجلو - أميركي للعراق، ليتخذ من النجف مقرا ومستقرا، إلى أن حانت لحظة المأسوية، التي جددت أحزان الشيعة التاريخية، وحركت دوافع الثأر والانتقام، مع اشعال الفتنة التي يريدها المحرضون.
أصابع اتهام أخرى وجهت إلى الصراعات الداخلية ذات الطابع المذهبي التنافسي، سواء بين الأقلية السنية والغالبية الشيعية في العراق - 06 إلى 56 في المئة من العراقيين - أو بين الفصائل والمرجعيات الشيعية المتنافسة بقوة على الزعامة في النجف، زعامة الحوزة الدينية، بكل ثقلها المذهبي والسياسي على السواء، وظهور قيادات جديدة تحاول فرض نفسها على المشهد الشيعي خصوصا، وعلى المشهد العراقي عموما بعد زوال النظام السابق الذي طالما قهر الجميع واغتال الكثير من المرجعيات وأغلق المعاهد والمؤسسات الشيعية في المثلث الشهير النجف وكربلاء والكوفة مرورا ببغداد والبصرة!
في ظل التطورات الجديدة، وبعد وفاة المرجع الشيعي الأهم والأكبر السيد أبوالقاسم الخوئي، وانزواء آية الله السيد السيستاني متعبدا متصوفا، وتراجع دور آية الله محمد سعيد الحكيم وكلاهما من أبرز المرجعيات في الحوزة الآن، ظهر نجم محمد باقر الحكيم ساطعا، ليس فقط باجتهاده الديني باعتباره مرجعا رئيسيا، ولكن أيضا بتاريخه النضالي السياسي، قائدا للمعارضة ضد النظام السابق، وزعيما للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، ووجها معتدلا للمشروع السياسي الشيعي الهادف إلى إقامة دولة إسلامية في العراق، ومطالبا بانهاء حال الاحتلال الأميركي في أسرع وقت...
هنا تبدأ أصابع الاتهام تجري في مسالك أخرى، ذلك أن مشروع السيد محمدباقر الحكيم لإقامة دولة إسلامية في العراق، معتمدا على الغالبية الشيعية، مجاورة لإيران أكبر دولة شيعية، هو الذي دفع إلى اغتياله مبكرا قبل أن يكتمل، أو حتى قبل أن يطرح نفسه بديلا للوضع القائم...
المؤكد أن أميركا لا ولن تقبل أن تقوم دولة إسلامية بهذا النموذج في العراق، وخصوصا وهي تعلم العلاقة الوثيقة التي ربطت على مدى السنوات السابقة، بين السيد محمدباقر الحكيم والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وبين إيران التي تناطح أميركا وتضعها أميركا في محور الشر، فهل بعد كل ما فعلته أميركا وتكبدته في غزو واحتلال العراق، تسلمه لقمة سائغة إلى قيادة إسلامية مشابهة أو متعاونة على النظام الإسلامي الذي أسسته ثورة الخميني العام 9791 في إيران، ليقف في وجه أميركا الشيطان الأكبر، و«إسرائيل» الشيطان الأصغر!!
إيران نفسها لم تكن مرتاحة تماما لمنهج محمدباقر الحكيم الاستقلالي، الذي ظل على رغم وجوده في إيران، حريصا على عدم التبعية المطلقة للمنهج الإيراني، وحريصا على إعادة الهيبة والقرار إلى الحوزة الشيعية في النجف، عاصمة شيعة العالم، الأمر الذي يعني نقل الثقل من «قم» الإيرانية، التي كانت قد أخذت هذا الثقل من النجف في ظل مطاردة نظام صدام للمرجعيات الشيعية العراقية...
الآن جاء محمدباقر الحكيم بمشروعه المذهبي السياسي، ليقود المرجعية الدينية من مقرها الطبيعي في النجف الأشرف، مستعيدا الدور الذي استعارته قم منذ الامام الخميني، فهل هذا أمر سهل أو مقبول، خصوصا من جانب التيار المحافظ القوي التأثير في طهران وقم!
المشهد الشيعي في العراق يعاني في عمومه انقسامات حادة، ليس فقط بين المرجعيات الدينية الكبرى، ولكن أيضا بين القوى والأحزاب السياسية التي تتنافس بقوة على الزعامة في ظل الأوضاع الجديدة، فهناك حزب الدعوة الإسلامية بجذوره القديمة، والحركة الإسلامية في العراق، ومنظمة المجاهدين، وحزب العمل الإسلامي، ثم أفرخت الأوضاع الجديدة - في ظل الاحتلال وسقوط النظـام السابق - قيادات شيعية سياسية جديدة، مثل الشاب مقتدى الصدر، الذي يطرح نفسه بجرأة واندفاع، بديلا لكل القوى والمرجعيات، ومتحديا حتى لمشروع محمدباقر الحكيم، الذي يشكل اغتياله وغيابه عن المشهد العام فرصة تاريخية للظهور!
بسقوط النظام الصدامي، فقد السنة قيادتهم للعراق على رغم أنهم أقلية، مقابل تقدم نفوذ الغالبية الشيعية من ناحية، والأكراد من ناحية أخرى، فإن كان النظام السابق اعتمد عليهم اعتمادا شبه كامل، فإن وضعهم الحالي والمستقبلي لا يبشر باستعادة القيادة، ليس فقط بحكم طموح الغالبية الشيعية ونزوع الأكراد إلى مشروعهم السياسي وجذورهم العرقية، ولكن لأن المحتل الأميركي يعمل على تدمير وإبادة كل ركائز ومصادر نفوذ النظام السابق وتصفيتها، هذا من ناحية...
ومن ناحية أخرى فإن الأقلية السنية لابد أنها تشعر بأنها ستصبح قريبا موضع عزل وربما اضطهاد، وقد جاء مشروع السيد محمدباقر الحكيم السياسي والديني، ليطرح التحدي الأكبر على السنة التي فقدت القيادة والنفوذ كما هو واضح، تتلفت حولها في ذهول، بحثا عن سند وداعم عبر الحدود من الدول العربية السنية الأخرى ربما من دون جدوى، لأن فاقد الشيء لا يعطيه!
إذن... كل الاحتمالات مطروحة وكل الأسئلة مفتوحة، لكن تبقى النتيجة المروعة لما حدث ويحدث، وهي أن شلالات الدم لن تتوقف بسهولة أو بسرعة، لأن عوامل تحريك وتغذية الفتنة تعمل بلا كلل على تفتيت الوحدة الوطنية والقومية، فتنة دينية ومذهبية، فتنة عرقية، فتنة قومية تشق ظهر الوطن الواحد لتهدر منه الدم وتنزع النخاع...
ما يجري في فلسطين والعراق، يمثل المقدمة السيئة، لكن الأسوأ ما سيجري بعد ذلك في باقي الدول العربية، إن استسلمنا لـ «البرنامج» الذي وضعه زعماء صقور اليمين الجدد في واشنطن، بتنسيق كامل مع «إسرائيل» وزعماء الصهيونية العالمية!!
خير الكلام:
«لا تجتمع أمتي على ضلالة»
حديث شريف
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 363 - الأربعاء 03 سبتمبر 2003م الموافق 07 رجب 1424هـ