العدد 363 - الأربعاء 03 سبتمبر 2003م الموافق 07 رجب 1424هـ

التاريخ... الطغاة

يحيلونك على المستقبل... فيما الماضي ازرقّ دمه، يحيلونك على التاريخ، سعيا وراء انشغالك به توهما في بلوغ المستقبل!

الطغاة أغبياء، أغبياء للغاية، لأنهم لا يتعلمون من أخطاء طغاة سبقوهم في السحل والهيمنة والقمع والمصادرة، هم أغبياء بامتياز. لم يكن التاريخ يمثل لهم أية قيمة تذكر، ففي عرفهم لا وجود له، بمعنى آخر لا وجود لطغاة غيرهم... هم أول الممارسة، وأول الاكتشاف، وإن جندوا أطقمهم لاكتشاف مزيد من طرق ووسائل السحل والهيمنة والقمع والمصادرة، على ضوء من سبقهم، وكأن التاريخ ضمن رؤيتهم حكر على طغاة عبروا، وعليهم أن يحصروا التاريخ كل التاريخ ضمن الماثل والمطابق لحاضر سلوكاتهم وممارساتهم، فيما المستقبل مطرود ومقصي ومستبعد!

ورد في تحقيق نشرته مجلة «شتيرن» الألمانية، ان «ستازي»، اسم مخابرات ألمانيا الشرقية، تركت وراءها 011 أميال من «التقارير». التقارير كانت تحصي أنفاس الناس وتحركاتهم. فالتقارير التي وصلت إلى 011 أميال دفعت بالحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية إلى التراجع 011 قرون إلى ما قبل نقطة الصفر بآلاف الأصفار!

الولايات المتحدة الأميركية، وباليافطات الصفراء التي ترفعها فيما يتعلق بحقوق الإنسان، هي على النقيض من ذلك على صعيد الممارسة، التي تؤذن بنهايتها على مستوى الصدقية والقبول، فقراءة لطبيعة علاقاتها مع الدول القمعية تشير إلى غباء يتمتع به الطغاة على مستوى الدول والأفراد، فحجم التجارة التي تقيمها أميركا مع الدول التي تتهمها وزارة الخارجية الأميركية باستخدام التعذيب: 000000000004 دولار( أربعمئة بليون دولار)!

ولم تنفصل الأدبيات السياسية والأخلاقية لأميركا، عن أدبيات رؤسائها بالاستناد إلى تاريخ موغل في الزيف والمساحيق، والبطولات المؤقتة، فيما هم بمعزل عن حقيقة فهم التاريخ بكل ملابساته وتعقيداته، فالممثل الأميركي الرديء «رونالد ريجان» ورئيس الجمهورية فيما بعد، لم يشأ الانفصال عن تاريخه، ما دفعه إلى نقل تلك البطولات من الشاشة إلى مسرح الحوادث العالمية في بقاع شتى من العالم، وها هو يصرح وبكل ثقة واستنادا إلى تاريخه: «أنا لا أعرف كيف يمكن أن تكون رئيسا من دون أن تكون قد مارست التمثيل من قبل»!

قبل ذلك بكثير... أي بين العام 0471 و 6871م، توصل ملك بروسيا فريدريك الثاني إلى الآتي: لقد انتهيت أنا وشعبي إلى اتفاق يرضينا جميعا، يقولون ما يشتهون، وافعل ما أشتهي!

ولم يتردد القديس «بولس» من الجهر بالآتي: الحاكم المستبد لا يحمل السيف عبثا، إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر.

أما «مارتن لوثر» فقد تيقن بأن أمراء هذا العالم آلهة، والناس العاديون هم الشيطان، وعن طريقهم يفعل الرب أحيانا ما يفعله في أحيان أخرى مباشرة عن طريق الشيطان، أو انه يجعل الثورة عقوبة لخطايا الناس، إنما الأفضل أن احتمل أميرا يرتكب الخطأ على شعب يفعل الصواب!

يدور الحوار التالي بين جاليليو وأحد تلامذته، في ظل طغيان جهل الكنيسة وتعاطيها مع الخارجين على ناموسها.

أحد تلامذة جاليليو: الأرض التي بلا أبطال غير سعيدة.

جاليليو: خطأ. بل الأرض التي بحاجة إلى بطل غير سعيدة.

صديقه: كيف يترك أصحاب السلطة رجلا يقول الحقيقة حتى حول أبعد النجوم؟ هل تتخيل أن البابا يكتب في مذكراته: 01 يناير 0161 «إلغاء السماء»؟ عندما كنت تراقب من خلال منظارك، رأيتك مربوطا إلى خازوق، وعندما قلت انك ستحتاج إلى براهين، شممت رائحة لحمك المحترق!

فيما تاريخنا يحفل بمن تجاوز أولئك بمراحل، فأبو جعفر المنصور، يبرر للأمة وللتاريخ: أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه!

وذات يوم قالت له أم الدرداء: بلغني انك شربت الطلى بعد العبادة والنسك، فقال: إي والله، والدماء أيضا شربتها! ما دفعه ذات يوم لأن يجهر بوعيده: «والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا (مقام الخلافة) إلا ضربت عنقه»!

ولو ان «فريدريك تيرنر» قال كلمته في حضرة أحد من أولئك لما وصلنا: «لا يوجد شيء أكثر هشاشة وزوالا من القوة»!

بعض الشعوب هي الأخرى غارقة في محيط من الغيبوبة، غيبوبة الرصد والتأمل واستخلاص المواقف، غيبوبة الفرز على مستوى الأشخاص والحوادث والمستجدات، لذلك تجدها مصابة بحنين إلى التاريخ، وفي غالبية الأوقات، إلى شيء منه، على اعتبار انه افضل حالا من الراهن، فيما المستقبل مغيب وبعيد المنال، في مفارقة عجيبة يستوي فيها حال الشعوب من حيث النظر والتقييم مع حال الطغاة بكل سطوتهم وجبروتهم!

ربما يكون «ارنولد توينبي»، آخر العظماء في تتبع مسار الحضارات، تاريخا وحاضرا ومستقبلا، من حيث التنبؤ والقراءة الحصيفة بحيث نجده ينهي سطوة وبطش الدول الصهيونية ويحيلها إلى التاريخ من خلال رؤية مفادها السقوط الحتمي لدولة قامت على السطو والإرهاب والعنف، ولم يجد في حاضر الدولة اللقيطة أية إشارة لإمكان الاستمرار، فيما حاضر الشعب المقتلَع والمصادَر والمنفي، يشر إلى خلاف ذلك، يشير إلى مستقبل مليء بالكثير من الإضاءات!





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً