يملك العراقيون في تعددهم وتنوعهم كثيرا من الاسباب الدافعة الى التطرف في الخيارات والسياسات والمواقف، ذلك ان ما اصابهم من الأنظمة التي توالت على الحكم في بغداد، وما خاضته نخبتهم السياسية من صراعات دموية منذ قيام العراق الحديث، خلقا خلفية وبنية تحتية لتطرف لا حدود له، يمكن ان يجد له تعبيرات في تطرف قومي وديني وطائفي ومناطقي، كما يمكن ان يتجسد في تعبيرات ايديولوجية وسياسية وغيرها.
وكانت مناسبة سقوط نظام صدام حسين في ابريل/ نيسان الماضي فرصة لانطلاق التطرف، او «التطرفات» الى المدى الاوسع، بحيث يتحول العراق الى تجمعات متصارعة متناقضة فيما بينها، ومتصارعة متناقضة مع محيطها بفعل تطرف المنضوين في اطارها، تتغذى من غياب السلطة المركزية وتفتت الدولة بما كانت عليه من دولة دكتاتورية بوليسية، واحتلال قوات العدوان الأميركي البريطاني للعراق، وما تركه ذلك من فلتان سياسي وأمني، مازالت بقاياه ماثلة بعد أكثر من اربعة اشهر على سقوط النظام في بغداد على نحو ما أكدته التفجيرات الاخيرة التي حدثت في النجف وبغداد، إذ طالت في الاولى مشهد الإمام علي (ع) وفي الثانية مقر الامم المتحدة.
غير ان القسم الأكبر من العراقيين ابدى قدرا مفاجئا بقوله وسلوكه في معارضة التطرف والميل الى مواقف وسلوكيات معتدلة، وكان أهم تعبيرات موقف الأكثرية العراقية، تأكيد اللحمة الوطنية في انتمائهم إلى البلاد وطنا وشعبا، وسعيهم الى عراق مستقبلي يضم كل ابنائه على تعددهم وتنوعهم. وكانت المسيرات المشتركة للشيعة والسنة العراقيين مثال آخر يتوافق مع مضمون التوجيهات التي صدرت عن مرجعيات عراقية بعدم فتح حسابات الماضي وتصفيتها حتى مع المنتمين إلى حزب السلطة السابقة وأجهزتها، ومثلها تآزر العراقيين في مواجهة عمليات النهب والتخريب التي مارسها الرعاع ضد مؤسسات المجتمع والملكيات الاهلية، وكلها كانت مناسبات عملية لتأكيد اعتدال وعدم تطرف العراقيين حتى في الظروف الجديدة.
وبخلاف الصورة الايجابية للغالبية العراقية، ظهرت هنا وهناك بعض تعبيرات التشدد والتطرف، فاتخذ بعض التطرف شكله القومي، كما في حال التجانس الكردي في شمال العراق، وكان في بعض تفاصيله محاولات بعض الاكراد طرد العرب من اماكن سكناهم، تحت ذريعة ان الأخيرين حلوا مكان الاكراد في وقت سابق، وظهرت نزعة طائفية ذات طابع متطرف في بعض اوساط الشيعة تلقي على سنة العراق ذنوب ومترتبات النظام السابق بدعوى انه «نظام سني»، وفي النسق ذاته اتهم بعض السنة بعض الشيعة بالتهاون مع قوات العدوان على العراق، والتقاعص عن مقاومة الاحتلال، وهو أمر يأخذه كثير من العراقيين على الاكراد في الشمال الذين يشار الى تعاونهم مع قوات الاحتلال الأميركي.
ولعل قول بعض الاسلاميين - على قلتهم - بضرورة «اقامة نظام اسلامي» في العراق تعبير عن نزعة تطرف ديني - ايديولوجي، قد يجر لاحقا الى نوع من التطرف المذهبي في اختلاف السنة والشيعة على مذهبية النظام الاسلامي المطلوب، وهذا التطرف بطبيعته الايديولوجية يعيش الى جانبه تطرف سياسي اطلقه اعضاء في نادي النخبة السياسية الحالية، اساسه محاولة فصل العراق عن عمقه وبعده العربي، مستندين الى مقولة، ان كثيرا من العرب كانوا يدعمون النظام السابق.
ان حصر واحصاء تعبيرات حالات التشدد والتطرف في عراق اليوم، يبدو امرا صعبا نتيجة التخفي الذي يلف المتطرفين، لكن المحصلة الواقعية للمواقف والسياسات تبين وجود حالات من التطرف المتعدد المستويات والمتفاوت الاهمية في الموقف من الآخر، تذهب الى حد التناقض مع آخرين في التكوين العراقي، بل وادانة بعضهم والتعدي على آخرين. وباستثناء ان هذا النمط من المواقف والسياسات يتعارض مع طبيعة العراق والعراقيين في تكوينهم وتجربتهم بوصفهم مجتمعا متعددا متنوعا، فإنه يهدد واقعهم ومستقبلهم، وخصوصا ان عراق اليوم كيان تحت الاحتلال الاجنبي، ومقدراته وثرواته جميعا محكومة بإدارة الاحتلال، كما انه محكوم بعدها بما خلفه النظام السابق من اعباء ومشكلات سياسية واقتصادية، تثقل حياة العراقيين ومستقبلهم، باستثناء ما يحتاج إليه العراقيون من امكانات من أجل حياة أفضل لشعب يعيش في القرن الواحد والعشرين، وكلها تتطلب من العراقيين ونخبتهم على وجه الخصوص، التوقف عند حالات التطرف الحاصلة، وإعادة صوغ مواقف وسياسات وممارسات ذات طابع معتدل وتوافقي، ينهض بالعراق من واقعه بدلا من أن يؤدي به التطرف الى تشتت وانقسامات وتناقضات لا حدود لها.
العدد 362 - الثلثاء 02 سبتمبر 2003م الموافق 06 رجب 1424هـ