أخيرا أعلن تشكيل الحكومة العراقية الأولى بعد إسقاط نظام صدام حسين. فالحكومة كان مقررا لها أن تعلن السبت الماضي، وأجل الأمر ثلاثة أيام بعد ورود خبر استشهاد السيد محمد باقر الحكيم الجمعة الماضي.
أعلنت الحكومة بإشراف الإدارة المدنية الأميركية وفي ظل انتقال رئاسة مجلس الحكم من إبراهيم الجعفري إلى أحمد الجلبي. الحكومة الأولى كبيرة (52 حقيبة) وموسّعة تشمل مختلف أطياف المجتمع العراقي، وموزعة طائفيا ومذهبيا ومناطقيا وقوميا.
مع ذلك برزت اعتراضات شتى عليها من جهات عدة. فالكثير من الأطراف وجدت في التقسيم الطائفي خطوة ليست جيّدة. فالعراق تاريخيا (منذ نشوء الدولة الوطنية الحديثة) لم تظهر فيه هذه الألوان من السياسة. والبعض تخوف من أن يكون التوزيع الطائفي (المناطقي - المذهبي) للحقائب الوزارية بداية تقسيم أهلي - نفسي يعتمد التفرقة أساسا للاتفاق والتفاهم.
مجلس الحكم الانتقالي يردّ على النقد بالقول: إن هذا هو الحل الأفضل (الأنسب) للعراق بعد ظلم لحق بالكثير من فئات المجتمع.
المعارضون بدورهم يردّون بأن البداية ليست جيدة لأن التمثيل السياسي يجب أن يعتمد الخبرة والكفاءة وأن العراق (الدولة والمجتمع) يجب أن يبقى خارج اللعبة الطائفية والمذهبية إذا أراد الاستمرار كوحدة سياسية.
إذن الوضع في العراق لم يستقر بعد. وهناك الكثير من الآراء المتضاربة لاتزال تبحث عن صيغة دستورية للحكم. البعض يرى أن «الصيغة اللبنانية» التي تعتمد الحصص هي الأحسن في الوقت الحاضر. والبعض يرى أن تلك الصيغة تساعد على وضع حلول مؤقتة لكنها ليست حلا لأنها ربما، وعن غير قصد، تسهم في إنعاش الذاكرة الطائفية (المذهبية - المناطقية) وتعيد إنتاجها مشروعا واقعيا يكشف عن الكثير من عناصر التباعد والتنابذ. فالحل الطائفي برأي الفئة المعترضة ليس حلا لمشكلة هي سياسية في أساسها وليست طائفية. فالمشكلة مع نظام صدام ليست طائفية بقدر ما كانت ضد سياسة التفرقة والاستبداد والتسلط. والحل لا يكون باعتماد سياسة معاكسة بل في قراءة واقعية لمشكلة دستورية غابت عن الدولة العراقية فترة ثلاثة عقود.
الاعتراضات على الحكومة الأولى (الكبيرة والموسعة) فيها جوانب من الصحة. فهي على رغم أنها جاءت شاملة وضمت معظم فئات المجتمع العراقي فإنها مازالت مقصرة في استيعاب مختلف تعقيدات الواقع وتنوعه السكاني. فالتدقيق في العناصر الاجتماعية للتركيب السكاني الأهلي يكشف عن وجود تداخلات وسلسلة لا تنتهي من التنوع بين شرائح المجتمع وفئاته. فالقوة السكانية ليست متركزة في مناطق بعينها. فهناك غالبيات موجودة في كل منطقة. وفي داخل كل وحدة سكانية توجد مجموعات مختلفة ومتمايزة عن الغالبية المحلية.
في الشمال مثلا تعيش في الوسط الكردي مجموعات مختلفة من الأقوام والأديان والمذاهب. وضمن الغالبية هناك أقليات. كذلك ينسحب الأمر على الوسط. فالقول إن المنطقة الوسطى يغلب عليها الطابع العربي - السني ليس دقيقا. فضمن الغالبية المذكورة هناك أقليات متنوعة تعيش في تلك المناطق. وهناك أيضا طوائف ومذاهب نزحت من الجنوب والشمال وتوطنت في الوسط وباتت تشكل غالبية سكانية في بعض أحياء العاصمة وفي الكثير من المدن والبلدات. والأمر نفسه ينطبق أيضا على الجنوب.
القول إن العراق ينقسم تقليديا وسياسيا إلى ثلاث مناطق صافية سكانيا هو قراءة سطحية للتشكل السكاني، إذ تشير القراءة الدقيقة إلى وجود أطياف تلغي فكرة التجانس (الانقسام السكاني) وهي بدورها غير قابلة للتفكيك من دون اللجوء إلى العنف والاقتتال الأهلي.
حاولت الحكومة العراقية الأولى أن تكون مختلفة ومتوازنة الا أن المشكلة ليست في توزيع الحقائب والنسب (الحصص) بين الطوائف والأقوام والأديان... فالأزمة أساسا سياسية ودستورية وتتمثل في غياب الدولة سواء في عهد دكتاتورية صدام أو في عهد الفوضى العامة التي اجتاحت العراق بعد الاحتلال الاميركي.
فالمشكلة في الحكم وليست في الحكومة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 362 - الثلثاء 02 سبتمبر 2003م الموافق 06 رجب 1424هـ