إلى كل من يتوهم امتلاك الحقيقة... إلى كل من يدعي القبض على الحقيقة، أظن أننا كلنا مررنا بتلك اللعبة في طفولتنا... اللعب بـكرة من الزئبق... كلنا توهمنا أننا نقبض عليها، فتفاجئنا بالتسرب من بين أصابعنا... وهم طفولي... وجهل بحقيقة وطبيعة الزئبق، لكن تخيل معي إن رأيت شيخا مـسنا يلعب اللعبة نفسها، وإن حاولت أن تقنعه باستحالة القبض على الزئبق، انفعل واتهمك بإحباط محاولاته التي ينبغي أن تكلل بالنجاح.
كيف تصف هذا الشيخ؟ ماذا ستشعر تجاهه؟ هل ستشفق على سذاجته؟ أم جهله؟ أم ستجتازه اجتياز الكرام كأنك لا تراه؟ كيف ترى عناده أمام محاولتك شرح خواص الزئبق له؟
هذا المشهد نفسه يتكرر كل لحظة في مجتمعاتنا... بتلك الصورة نفسها، ولكن على نطاق أوسع. فنرى جماعة ما تنتمي إلى معتقد ما أو أيديولوجية سواء دينية أو سياسية أو حتى فلسفية، وتراها تقبض على تلك العقيدة بكل ما أوتيت من قوة وكأنها تخشى تسرب الحقيقة من بين أصابعها، تقف لتنادي وسط الجميع... انظروا ها هي الحقيقة المطلقة بين أناملي، وإن حاول أحدهم شرح طبيعة الحقيقة، وأنها لا تخضع لقوانين الملكية، سرعان ما تشن عليه الحرب ووفقا لإيمان كل جماعة تفاجئك بأسلحتها.
فالعقيدة الدينية تعلن أن من لا يمتلك نوع الحقيقة التي تحملها في قبضة يدها هو كافر، يخسر دنياه وآخرته، وكل ما تمتد إليه يده هو باطل، وكل ما يصنعه حتى وإن كان صالحا هو مصبوغ بصبغة الكفر!
والفرق ليس كبيرا في تقييم المؤمنين بعقيدة ما لمن هم خارجها وبين المنتمين لأيديولوجية فلسفية أو اقتصادية أو حتى إنسانية ونظرتهم لمن هم خارج أسوارهم، فمنهم من يتهم الآخرين بالرجعية والتخلف، ومنهم من ينعت الآخرين باللاإنسانية والبداوة، ومنهم من يصف الآخرين بالانحطاط الفكري والأخلاقي، وتجد نفسك فجأة في عالم حرب لا تعرف الهدنة.
البعض يكفر الكل فيه، والبعض الآخر يحاول بكل الطرق إثبات صحة نظريته ونشرها، وبعض ثالث ينعزل تحت تبريرات عدة عن هذا الكل المغاير له ويصنع لنفسه عالما معقما ليعيش فيه بلا ملوثات ولا منغصات، ولكن لا يتأخر اكتشافهم لاستحالة الانعزال عن العالم، فيتسرب لهم من دون وعي منهم، وبالعكس تجد وطأة هذا التسرب عليهم أعمق ممن يعيشون في العالم وفي احتكاك مستمر معه، وفي كل ذلك تجد قلة قليلة لا تنتمي لأي من تلك الجماعات أو المعتقدات، قلة تعترف باكتشافها لجزء صغير من الحقيقة، لكن لـحسن الحظ لا تملك جرأة ادعاء امتلاكها، قلة تحبو بخطوات صغيرة... لا يعثرها نجاح احدى الخطوات أو فشلها، فهي تؤمن بضرورة السقوط والقيام في طريق بحثها الذي لا ينتهي، قلة تتعلم كيف تستمتع بالحبو، ومع الوقت تتقن اختيار مكان خطوتها التالية، قلة اختارت ألا تضيع العمر في صراع وحرب الأفكار والمعتقدات ومحاولة إثبات انتصار معتقد... وهزيمة معتقد آخر، ولكنها اختارت درب البحث إلى اللامنتهي.
قلة أدركت طبيعة الحقيقة... فالحقيقة لا تخضع لقانون الامتلاك!
العدد 361 - الإثنين 01 سبتمبر 2003م الموافق 05 رجب 1424هـ