العدد 361 - الإثنين 01 سبتمبر 2003م الموافق 05 رجب 1424هـ

بين الإمساك بالورقة السياسية وتفجير الوضع الأمني

تداعيات اغتيال الحكيم

محمود السيد الدغيم comments [at] alwasatnews.com

-

قد يكون حادث اغتيال آية الله السيد محمد باقر الحكيم بداية لتكتيل العمل السياسي في العراق، وترسيخ دور القوى السياسية وتثبيت وجودها بشكل أكبر من ذي قبل، حتى ضمن إطار مجلس الحكم الذي يعاني ما يعانيه من عدم اعتراف أطراف كثيرة به، وفي المقابل، قد يكون اغتيال الحكيم بداية لتفجير أمني واسع النطاق ينسف العملية السياسية برمتها، ويضيع جميع الحسابات ويخلط كل الأوراق مع بعضها بعضا، إلا أن الظاهر من تداعيات الجريمة إلى الآن، أن الأطراف السياسية مازالت تمسك بالورقة السياسية جيدا وتحتفظ بها خوفا عليها من الفوضى الأمنية غير المحسوبة، وأن مرحلة المعاناة التي عانى منها الشعب العراقي لا يمكن أن تتطور إلى معاناة جديدة، إذ إن البيانات التي شجبت الاغتيال، وممارسات القوى السياسية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية تحديدا إزاء الحادث تدل على أن الورقة السياسية هي بريق الأمل الوحيد لكل القوى السياسية على رغم الحال الأمنية المتوترة.

هناك شيء اكبر وراء اغتيال الحكيم، وهو في دائرة التخطيط للحدث يشكل العنصر الاستراتيجي الأساس في حال فشل اللعب على الوتر الأمني والفتنة الطائفية والبينية، ألا وهو ضرب القاعدة الأساس لخط إسلامي ممتد في قواعد عريضة جدا، بإمكانها أن تشكل في ظل توافر الظروف المناسبة حكم العراقيين أنفسهم، بمناخ مقارب لنظام إسلامي ثان على غرار النظام الإسلامي في إيران، وإن كان ضمن تعدد اثني أكثر اتساعا من الموجود في النظام الإيراني، مهما تم تدوير التفسيرات والتخمينات بهذا الاتجاه أو ذاك.

ففي ظل وجود مستوى من التأييد الشعبي لتيار الحكيم، ووجود إثنيات أخرى تقتسم الحصص الأخرى بنسب صغيرة لا تكاد تذكر، فهذا يجعل أي خيار ديمقراطي يصب مباشرة في صالح هذا التيار الممتد، وغير المقطعة أوصاله وحصصه الانتخابية، وحضوره السياسي على الساحة العراقية، وبالتالي فإن استهداف الحكيم، هو استهداف لمرجعية مهيأة تاريخيا وسياسيا للعب هذا الدور من دون منافس حقيقي لها.

وفي هذا المجال، يمكن إثارة مجموعة تحليلات أولية، يمكن أن تعطي تفسيرا أوليا لحادث الاغتيال والأطراف التي تقف وراءه أو المستفيدة منه، بحيث يتم البناء عليها مستقبلا بحسب تطور الحوادث وسيناريوهاتها في العراق.

أول ما يمكن أن يثار في هذا الجانب، هو موقف الحكيم المؤيد وبقوة لمجلس الحكم تحديدا، ومن ورائه الموقف الإيراني الداعم لهذا المجلس على رغم أن مجلس الحكم عين من الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر، السؤال: لماذا تم استهداف السيد محمد باقر الحكيم، ولم يستهدف أعضاء من مجلس الحكم الذين من بينهم ممثلون عن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق؟ والرد على ذلك: إن من استهدف الحكيم استهدف الأرضية القوية التي يمكن أن تؤسس لشرعية مجلس الحكم مستقبلا من دون الاعتماد على الشرعية الأميركية.

إذن، فاغتيال الحكيم يهدف إلى غرضين أساسيين، الأول: بقاء الحال السياسية في العراق ضمن دائرة الاثنية المموهة ذات التمثيل غير الحقيقي، والتي تتساوى فيها الأطراف المشاركة كافة في الحكم خدمة لمصالح أميركا وبقائها في العراق، والثاني: خلق الصراعات بين الأطراف السياسية في ظل عدم وجود غطاء سياسي أو شرعي كبير يمكن أن يغطي مجلس الحكم المعين أميركيا، ما يجعل الحاجة إلى الوجود الأميركي عراقيا ملحة بشكل دائم، وهنا يقع الدور على المرجعيات الدينية في النجف الأشرف، بصفتها ذات حضور جماهيري كبير أن تقدم هذا الغطاء المطلوب وبسرعة ليكون البديل عن الغطاء الأميركي، وهذا يتطلب وعي القوى السياسية أيضا بهذا المطلب، والعمل على إنجازه بسرعة.

ونعود مرة أخرى إلى استراتيجيات الاغتيال، فنجد أن اغتيال الحكيم وفقا لما تقدم؛ يصب في خانة ضرب القاعدة الأساس لنظام ذي تمثيل شرعي وامتداد جماهيري يفوق شرعية الاحتلال وقدرته على البقاء والحضور الفعلي في الساحة السياسية العراقية، والذي يشكله ضمن المتخيل الواعي للوقائع الموجودة في العراق النظام الإسلامي ذو المرجعية الممتدة جماهيريا، وغير المجزأة على مستوى القواعد والحصص الانتخابية.

من جهة أخرى، هذا يفسر أيضا عدم استهداف مناوئين لمجلس الحكم من مختلف الفعاليات السياسية، بما يعطيه فعل المناوأة من تصادم مع الطرف المحتل والفارض لهذا المجلس، والداعي إلى القبول بشرعيته، وبالتالي فإن اغتيال الحكيم وهو الداعم لمجلس الحكم، إنما هو اغتيال للشرعية البديلة التي قد تنشأ عن وجود أمثال الحكيم على حساب شرعية الاحتلال، وهذا بالتحديد يحصر الفاعل في جهات ليس من بينها مناوئون شيعة كمقتدى الصدر مثلا، وخصوصا أن الحكيم ليس عضوا في هذا المجلس، وإنما يحصرهم في جهات تدرك معادلات القوى في الساحة العراقية، وتحدد أهدافها بدقة عند الاستهداف، ولن يكون ذلك إلا المحتل وأطراف أخرى لها مصلحة واضحة وبينة من عدم استقرار العراق، وعدم قدرته على التمثيل الحقيقي لخياراته السياسية.

وهنا يجب تأكيد استغلال المساحة التي تمثلها المرجعية في إيجاد إطار مرجعي خارجي، لا يكون أي من الداخلين في مجلس الحكم جزءا منه، لأنه قد يفقد جزءا من صدقيته نتيجة ازدواجية تعامله مع الاحتلال من جهة، ورغبته في إيجاد شرعية تفوق شرعية الاحتلال من جهة أخرى، وبالتالي لا ضرورة لأن يسعى أي عضو من التنظيمات والأحزاب الإسلامية إلى تشكيل هذا الإطار المرجعي في الوقت الراهن، وتوجد حاجة ملحة لإشراك المؤسسة المرجعية كحاضن لهذا التوجه شرعيا، لتغطية النقص الذي خلفه اغتيال الحكيم، والضغط باتجاه عدم شرعية الاحتلال، في قبال تدعيمها لهذه الحال التوافقية الممثلة في مجلس الحكم، إلى حين وجود استحقاق شعبي يمكن الاعتماد عليه في فرز المسار السياسي المطلوب للعراق.

نقطة أخرى يمكن أن تثار، وتتعلق بالوضع الأمني في العراق، والأطراف المشتركة أو المستفيدة من تأجيجه، الأطراف الخاسرة من بقائه منفلتا وغير منضبط في مناطق العراق كافة، إضافة إلى محاولة القوى السياسية والدينية جعل حفظ الأمن بيد عراقية، وتقويتها خيارا وحيدا في مقابل وجود الاحتلال واقعا يفرض نفسه على العراق ضمن شرعية الأمم المتحدة التي أعطته هذا الغطاء.

وهنا يمكن الإشارة إلى مسألة في غاية الحساسية، وتتعلق بالغموض الذي يلف الوضع الأمني وكيفية تعامل قوات الاحتلال معه من جهة، ومن جهة أخرى أسلوب تصفية الحسابات السياسية بناء على مفرزات الواقع، وما ينتجه من معادلات قوى جديدة، فغموض الملف الأمني يرتكز على قاعدة استراتيجية في الفكر الأميركي الذي يعمد إلى خلط الأوراق في الحياة السياسية والأمنية، وخلق أعداء وهميين، أو تدعيم جهة ما وتقويتها، من أجل بقاء الاحتلال وإمساكه بالوضع السياسي والأمني كما هو حاصل في أفغانستان وفي العراق.

أما بخصوص تصفية الحسابات، فتعتمد أسلوب خلق مناخات الصراع بين القوى السياسية المتعارضة، واللعب على وتر الطائفية والقبلية، أو التمكين لأطراف خارجية، كما هو الحال بالنسبة إلى الضيوف العرب الذين يتوافدون على العراق لأهداف غير أهداف الجهاد بالتأكيد، وكلاهما أسلوبان يستطيع الاحتلال تحريكهما لإمساكه بمفاصل الوضع السياسي والأمني في العراق.

وفي الوضع العراقي تحديدا، فإن أسلوب التطويع للسياسات الأميركية لا يبدو مجديا مع الكثير من الأطراف السياسية كما حصل في تدجين الوضع الأفغاني وتطويعه أميركيا من خلال حكومة حامد قرضاي، وما يزيد الوضع تعقيدا هو قبول الأطراف الرئيسية الشيعية كالمجلس الأعلى وحزب الدعوة الدخول في معادلة مجلس الحكم، بما لديها من رصيد جماهيري وعمق مرجعي بديل عن شرعية الاحتلال وأطره السياسية، ما يجعل الاحتلال يعمد مباشرة إلى تعميق الفوضى الأمنية، وضرب العمق المرجعي الذي سيستمر بوتيرة متصاعدة في الأيام المقبلة، وسيهدد الوجود المرجعي بشكل مؤثر.

إن التهديد الفعلي للمرجعية الدينية في العراق، لكون المحتل ماسك بكل المفاصل الأمنية والسياسية، ويحتل العراق احتلالا مباشرا، هو الذي جعل المجلس الأعلى وحزب الدعوة تحديدا لا يستعجلان المواجهة العسكرية مع الاحتلال منذ البداية، ويؤكدان المقاومة السلمية السياسية، إلا أن تداعيات اغتيال الحكيم بوصفه واحدا ممن يمثلون العمق المرجعي للحال الشيعية في العراق، ستجعل الملف السياسي مرهونا بقدرة العراقيين أنفسهم على ضبط الإيقاع الأمني، وتأمين الحماية للوجود والعمق المرجعي تحديدا، وفي حال استمرار الاستهداف الأمني للوجود المرجعي، فإن العملية السياسية مع وجود الاحتلال والفوضى الأمنية لا يمكن لها أن تستمر.

من هنا، يمكن فهم عدم رغبة الأميركان في تسليم الملف الأمني إلى العراقيين، لأن تسليمهم هذا الملف إلى العراقيين معناه انتفاء شرعية وجودهم، وعدم قدرتهم على تحقيق الأهداف الاستراتيجية لاحتلال العراق. وعليه فإن على الوجودات المسلحة كفيلق بدر والتنظيمات العسكرية الشعبية أن تبذل جهدا نوعيا للحفاظ على الوجود المرجعي إذا أريد للعملية السياسية أن تستمر وسط حقل الألغام.

وفيما يبدو، فإن الأميركان لن يقفوا في وجه تنظيم القاعدة الذي نفذ أبشع الجرائم في أفغانستان بحق الطائفة الشيعية، وسيعطونهم الضوء الأخضر لتنفيذ جرائمهم في العراق، وكذلك لن يقفوا في وجه حزب البعث ولا الضيوف العرب المدعومين من أطراف عربية والمدعومين أميركيا أيضا، وهم يريدون الإجهاز على عراق جديد ممثل بوجوداته السياسية أيا كانت هذه الوجودات، خدمة لمصالح حزبية وطائفية ضيقة، ولأهداف استراتيجية سياسية واثنية تشترك فيها أكثر من جهة عربية ودولية بمعية أميركا، من أجل حرف خيار الشعب العراقي وحرف دلالاته السياسية إلى محاصصة مريضة، تخل بكل التوازنات لصالح الأميركان.

ومن كل ذلك، نفهم لماذا علق السيد محمد بحر العلوم عضويته في مجلس الحكم، الذي وصفه بأنه غير قادر على حماية المقدسات والمرجعية، وغير قادر على حفظ الأمن في العراق، لتبقى ثنائية الأمن والسياسة حاكمة للوضع العراقي بامتياز، وتحتاج من القوى السياسية الرئيسية إلى طاقة جبارة، وتحمل للضغوط الشعبية والأميركية والعربية، في اختطاف الورقة السياسية من يد الأميركيين، أو التحول إلى مواجهة عسكرية.

من كل ذلك، ستتضح فوارق الوجودات السياسية وطبيعة خياراتها لعراق ما بعد صدام، وفوارق الاحتلال وخياراته التي تريد سلب ورقة العراق الحر، تتضح هذه الفوارق للأنظمة العربية التي تستهزئ بالعالم وهي تتكلم عن عدم شرعية الأطياف السياسية الممثلة في مجلس الحكم، والتي بخلت ولا تزال تبخل بأي دعم لعراق جديد أنظف منها، ومن ملفها المليء بانتهاكات حقوق الإنسان ومساندة نظامه البائد، وما اغتيال الحكيم إلا البداية.

لذلك، يجب أن ينصب الجهد العراقي الآن على تعزيز الوحدة الوطنية بين الطوائف والأعراق كافة في العراق، من خلال فرزها فرزا جيدا يحفظ الحال السياسية من التدهور أو التراجع اللا محسوب داخليا، كما يجب أن تنتزع الورقة الأمنية من الأميركان بأية وسيلة من خلال تفعيل التنظيمات العسكرية الشعبية، وهذا يضع على فيلق بدر المهمة الأكبر في حفظ أمن المرجعيات خوفا من حدوث حوادث اغتيالات بالجملة للمراجع تكون أفدح من اغتيال الحكيم، والمهمة الثالثة تتركز على إيجاد غطاء شرعي للعمل السياسي، يكون بديلا نافيا لشرعية الاحتلال الأميركي، على ألا يكون أي من المشتركين في العملية السياسية جزءآ من الغطاء خوفا من ازدواجية الشرعية بين الاحتلال والواقع المرجعي، وتسليم هذه المهمة بالكامل إلى المرجعية الدينية.

العدد 361 - الإثنين 01 سبتمبر 2003م الموافق 05 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً