لا اعرف ما إذا كان التاريخ البريطاني سيسجل يوم الخميس الماضي (82 أغسطس/ آب) على انه يوم انقطاع الكهرباء عن العاصمة، أو هو يوم شهدت فيه الديمقراطية البريطانية أحد قممها الأخلاقية العالية.
في ذلك الصباح تجمع نفر من البريطانيين أمام مدخل المحكمة القانونية الخاصة بالبحث عن أسباب انتحار أحد العلماء البارزين البريطانيين في أسلحة الدمار الشامل، وكان بعضهم بات ليلته على الرصيف للدخول المبكر إلى القاعة، وحمل البعض الآخر صورا كبيرة لرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير وبعض كبار وزرائه مثل وزير الدفاع ووزير الخارجية (على هيئة ورق كوتشينة، كما فعل الأميركيون بصور المطلوبين في النظام العراقي السابق).
كل ذلك من اجل الفرجة على رئيس الوزراء وهو يقدم شهادته أمام المحكمة الخاصة، وهو ثاني رئيس وزراء في تاريخ بريطانيا يمثل أمام القضاء في هيئة خاصة لتقديم شهادته. الأول هو رئيس الوزراء السابق جون ميجر، الذي قدم شهادته لمحكمة مشابهة.
وإن اختلف الرئيسان، آخرهما عمالي، وأولهما محافظ، إلا أن السبب كان واحدا هو العراق.
قبل الحرب الأخيرة كان الجسم الشعبي/ السياسي البريطاني منقسما على نفسه، وعجت شوارع العاصمة البريطانية لعدد من الأسابيع بمظاهرات اشترك فيها الملايين من الناس ضد الحرب.
والموضوع الذي دخل رئيس الوزراء البريطاني من اجله لجنة التحقيق القضائية له ثلاثة مداخل في عالم الحكم الحديث وتطور المجتمعات، الأول هو الإعلام، والثاني هو أجهزة الاستخبارات، والثالث هو طريقة الحكم وتصرف رجال السلطة.
والثلاثة تقول لنا شيئا واضحا عن شكل الحكم في المجتمعات الغربية اليوم، وما هو مقبول من الجمهور وغير مقبول في الممارسة السياسية.
يقابل المداخل الثلاثة تلك، ثلاثة أخرى في التنظيم الاجتماعي وهي: استقلالية المؤسسات، رغبة السياسيين، وقوة الرأي العام.
إذا قارنا العناصر الثلاثة الأولى بالعناصر الثلاثة اللاحقة تظهر لنا صورة المجتمع السياسي الذي تطور في الغرب على مدى القرون الثلاثة الماضية.
والقصة تبدأ بنشوء نزاع صحافي. فقد قام صحافي بريطاني تابع لقسم التحقيقات في هيئة الإذاعة البريطانية (وهي مؤسسة مستقلة ممولة من الدولة) بنشر تقرير صحافي عن الوثائق التي قدمتها الحكومة البريطانية في توصيف أسلحة الدمار الشامل للعراق، عشية الحرب الأخيرة، وادعى التقرير الصحافي أن بعض تلك الحقائق في التقرير «تم لي ذراعها» وحرفت عن التقرير الأصلي الذي قدمته المخابرات البريطانية العامة من اجل أن تأتي «الحقائق» فيه مناسبة لما تريده الحكومة وتسوقه إلى أعضاء البرلمان والجمهور.
هذا التقرير أثار غضب الحكومة في وقت حرج، وادعت بنفيه، كونه ينافي الواقع وغير حقيقي، وتحدت هيئة الإذاعة البريطانية وكاتب التقرير أن «يفصح عن مصادره»، الأمر الذي رفضته هيئة الإذاعة مبررة أن ذلك لا يجوز مهنيّا ولا أخلاقيّا وان مصادر الصحافي «سرية» لا يجوز الإفصاح عنها.
بحثت الدولة عن المصدر فوجدت انه العالم ديفيد كيلي، وهو خبير له سمعة طيبة في متابعة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية لفترة تزيد على العشرين عاما، وبدا أن كيلي هذا هو الذي تحدث إلى الصحافي و«صحفية أخرى» في هيئة الإذاعة البريطانية عن شكوكه في أن الحكومة البريطانية عبثت بالتقرير الأصلي للمخابرات العامة.
وسربت الحكومة اسم كيلي إلى الصحافة «على أساس أن علمها به سيعرضها، إن أخفته، لتهم أشد من التهمة الأولى».
وهكذا تمت تحقيقات من خلال لجنة مشتركة في البرلمان البريطاني كان بطلاها الصحافي الذي نشر الخبر والعالم الذي نفى جزئيّا ما قاله للصحافي.
ولما اشتد الضغط على العالم كيلي قرر أن يتخلص من حياته، فبعد ثلاثة أيام من تحقيقات اللجنة البرلمانية وجد منتحرا في حراج قرب بيته بأن قطع شرايين يده ونزف حتى الموت.
في ظل انقسام لم يبرأ منه الرأي العام البريطاني، أصبح الجمهور والصحافة يميلان إلى تبرئة كيلي من التهمة الملصقة به (تعاطفا مع الأموات) وبدأت القضية تكبر إلى أن قرر رئيس الوزراء تشكيل لجنة قضائية محايدة وعلنية (وهو أمر له تاريخ طويل في العمل السياسي البريطاني) من أجل الوصول إلى الحقيقة.
وجاءت شهادة رئيس الوزراء بعد أن أدلى عدد من المسئولين بشهاداتهم موثقة، منهم رئيس هيئة المخابرات، وعدد من مكتب رئيس الوزراء، ووزير الدفاع، وكذلك رئيس هيئة الإذاعة البريطانية - الطرف المهم في القضية.
رئيس هيئة المخابرات أكد أن التقرير لم يلحقه أي تغيير، وانه التقرير الذي اعتمدته وقتها أجهزة الهيئة بناء على المعلومات المتوافرة. أما رئيس هيئة الإذاعة البريطانية فأصر على حق الهيئة في حماية مصادر أخبارها (كما تقرر الممارسات الصحافية في بريطانيا)، وان من واجبها البحث عن الأخبار وإشاعتها من اجل «حق الجمهور في أن يعرف».
الجمهور البريطاني ينتظر ما ستتوصل إليه الهيئة القضائية الخاصة بكل ذلك، فهي إن خرجت بإدانة ممارسات الحكومة عرضت حكومة بلير لصعوبات حقيقية.
إلا أن الدلالات التي يخرج بها المراقب لهذه الممارسة السياسية والقضائية، هي دلالات عميقة في عصر سرعة المعلومات وانتشارها، وهي تتمخض عن أربع دلالات مهمة: الأولى، ان الرأي العام من حقه أن يعرف ما يدور في الشأن العام بوضوح من دون لبس ومن دون كذب سياسي. والثانية، ان عمل المؤسسات الصحافية وما تتابعه من أعمال الدولة، هو من صميم عملها، فوضع الدولة بمؤسساتها المختلفة تحت المجهر ومراقبتها من الواجب أن تقوم به، سواء كانت مؤسسات إعلامية خاصة أو مملوكة للدولة، فالدولة ليست أشخاصا بل مؤسسات.
والثالثة، ان أسرار الدولة يجب أن تكون محفوظة، وخصوصا من قبل أولئك المؤتمنين عليها (لذلك انتحر كيلي بسبب - ربما - ما وجده من خروج على تلك القاعدة).
أما الرابعة، فهي أن المؤسسات السياسية مستقلة، حتى مدير المخابرات يجب أن يقوم بعمله بعيدا عن ضغوط سياسية من الحكومة، فهو يقوم بعمل وطني له قواعد محددة وأخلاقيات مهنية أيضا.
يبقي الهامش السياسي، فالبعض من الجمهور البريطاني، وحتى المسيس منه، يمكن أن يقبل أو لا يقبل ما تقوم به الحكومة البريطانية، ويمكن له أن يتظاهر ايضا في الشوارع بما يحلو له من شعارات، في حدود القانون المرعي، إلا أن القول الفصل في النهاية لتقرير «من يحكم أو لا يحكم» يبقى لصناديق التصويت في الانتخابات العامة.
تلك الآلية، هي التي قال عنها يوسف بن صالح العييري، ونشرت على أوسع نطاق «إن الديمقراطية تعادل البوهيمية»!
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 361 - الإثنين 01 سبتمبر 2003م الموافق 05 رجب 1424هـ