لا يختلف اثنان على أن المستفيد الأكبر من مقتل السيد الحكيم هو الولايات المتحدة، على المستويين المتوسط والبعيد لا القريب، ولكن من المستبعد في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها جنودها في العراق ان تقدم على هذه الجريمة النكراء مباشرة، وخصوصا ان الرجل وقف موقفا آثر فيه السعي السلمي لإنهاء الاحتلال وتجنب إراقة الدماء. والمرجح انها لو أرادت أن تغتاله الآن لطلبت أسهل الطرق وأقلها ضجيجا، ليخدم ذلك مخططها في العراق ومن ورائه المنطقة كلها. ولو أرادت أن تركب رأسها وتغتاله فانها لن تنفذها على المكشوف، وانما ستستخدم قفازات «غبية» أخرى، ليس أقلها فلول مخابرات صدام، المستعدة لبيع خدماتها لكل من يدفع الثمن.
ومهما قيل عن صدام وأزلامه، فانهم أعجز عن تنفيذ مثل هذا العمل الضخم، لان الأقطاب وقع نصفهم في الفخ الاميركية، وأكثرهم سلّموا أنفسهم إلى سلطة المحتل يأسا وقنوطا، فما عاد أحد منهم يمثل خطرا بدرجة تؤثر على الحوادث، وكلنا شاهد كيف قتل ابنا صدام، واقتيد نائبه طه ياسين من مخبأه مقيد اليدين ومعصوب العينين. حتى كبيرهم صدام يعيش في الخفاء، وكان عاجزا وهو في السلطة، فكيف به وهو مطلوب للأميركان، وإن كنا نشكّ كثيرا في جدية طلبهم لرأسه. مع ذلك يبقى الاحتمالان معا لا يزيدان على نسبة 01 في المئة.
بقي الاحتمال الاخطر هو ان تكون وراء هذه الجريمة أيدٍ عمياء، تنطلق من استباحة دم المسلم، ولا ترى لأحدٍ حقا في الحياة إلا من كان على رأيها وحدها، على نهج الرئيس الطائش جورج بوش: «إما معنا... وإما ضدنا». ومن هؤلاء نماذج كثيرة، مازالوا يتفيقهون ويفتون، معتبرين أنفسهم أولياء الله الصالحين، الجنة خلقت لهم وحدهم، وبقية المسلمين سيدخلون جهنم داخرين. من هنا تبرز خطورة ما يمكن أن يجرّه هؤلاء العمي المتعصبون من فتنٍ تؤذن ببدء مرحلة جديدة سوداء، ليس في حياة العراقيين فحسب، بل في حياة الأمة كلها.
وللأسف الشديد ان الاميركيين والبريطانيين يتحاشون الاقتراب من الأماكن الاسلامية المقدسة، سياسة وتعقلا، بينما يرى العمي المتعصبون ان لهم حقا في إزهاق أرواح الأبرياء، وينسون انهم يصيبون بسهامهم قلب الأمة في هذه المرحلة المظلمة من حياة المؤمنين برسالة محمد (ص).
وقبل أن نناقش الحدث علينا ان نتوقف على من صنع الحدث، ألا وهو الفكر المارق، ولنا في التاريخ عبرة يحسن التوقف أمامها مليّا، مستلهمين الدرس لئلا تقع الكارثة فتدفع الامة كلها ثمن حماقة الحمقى وغلو الغلاة من مراهقيها، ولئلا يعود بعض المطنطنين للعزف على وتر «مصب الإسلام الأكبر» و... من هذا اللغو الفارغ .
كلنا يعرف قصة الخوارج، والخوارج لم يكونوا قوما متحللين من الالتزام الديني، بل كانوا يواظبون على الصلاة، جباههم «كثفنة البعير»، ولكنها صلاة خاوية من الروح الإسلامي والنقاء النفسي. وهو ما أباح لهم سفك دم صحابي جليل وبقر بطن زوجه الحامل، ثم جلسوا يتجادلون في دم البعوضة: نجسٌ أم طاهر. حماقة يصنعها الفكر الصحراوي المتخلخل المخبول، الذي ما اعتمد على هدى من دين ولا صفاءٍ من عقل سليم. وهو ما انتهى بهم إلى الإقدام على قتل علي(ع) أخي رسول الله (ص) في محراب مسجد الكوفة، في فجر التاسع عشر من شهر رمضان في لحظة السجود. لم تكن لديهم حرمة لمكان ولا زمان ولا انسان، ماداموا يتوهمون انهم على حق، فذلك يكفي لإصدار حكم بالقتل وإباحة الدم.
في وقت الأزمات الشديدة واحتدام الخلاف بين أطراف المجتمع، عادة ما تبرز أطراف متشددة، تدعي امتلاك ناصية الحقيقة وحدها، فهم على الحق وغيرهم على الباطل، وهذا أخطر ما في الموضوع. كانوا يقفون في مسجد الكوفة يردّون على عليٍّ أقواله ويعارضونه في سياساته، ولكنه لم يبِح لنفسه قمعهم على منوال حكام الدنيا الصغار. صرخ أحدهم في وجهه ذات يومٍ صرخة تجمع الإعجاب به والحقد المتصاعد إلى السماء: «قاتله الله، ما أفقهه». وأراد المصلون الفتك به فقال عليٌ كرّم الله وجهه: «سبٌّ بسبٍ، أو عفوٌ عن ذنب». وترفق بهم مترويا حتى رفعوا السلاح بظهر الكوفة، فبعث إليهم عبدالله بن عباس يفاوضهم ويطامن من غلوائهم، فهاجوا كالحُمُر المستنفرة. وقبل أن يبدأ الحرب قال لأصحابه: «لا يُقتل منكم عشرة، ولا ينجو منهم عشرة». علمٌ ورثه من حبيبه رسول الله الذي أنبأه بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين. وفي النهاية اضطر عليٌ إلى إرسالهم بسيفه إلى النار. وجاءه أحد أصحابه مستبشرا بنهايتهم، فقال عليٌ: بل هم باقون في أرحام النساء وأصلاب الرجال... وترون بعضهم يحملون الأقلام اليوم وينفثون الحقد الأسود.
ونجمت من تلك العشرة الناجين فلول وشراذم، ولنظرته الثاقبة قال لأصحابه: «لا تقاتلوا الخوارج من بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه»، ملمّحا إلى معاوية في الشام. فعليٌ وهو في قمة الخلاف المحتدم لم يتحامل عليهم، وشهد لهم بأنهم طلبوا الحق فأخطأوه. وقدّم للتاريخ شهادة توصيف لحالهم: جهلٌ وتعجرفٌ وغرورٌ وطيشٌ فكانوا مركبا للشيطان. وفي نبوأة شفّ عنها حجب الغيب سجّل تصوره لما سيئول إليه مصيرهم الاسود: (سينتهي بهم الامر إلى أن يكونوا سرّاقا نهّابين). وهو ما حدث لهم فعلا، فظلّ هؤلاء يقاتلون الحكام أكثر من قرن، حتى انتهى بهم الأمر إلى الإغارة على المسلمين وسلب أموالهم والاستهانة بأرواحهم وسفك دمائهم، إن في ذلك لعبرة لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
البلاء كان في الفكر الصحراوي الجاف، الذي لم تلامسه نداوة الإسلام وروحه الانسانية النقية، فالذي يتجرّأ على قتل عليٍّ في محراب الصلاة في فجر رمضان وهو ساجدٌ لربه، لن تطرف له عينٌ لدى إقدامه على قتل السيد الحكيم وهو خارج من مقام جدّه علي، بعد أن أمّ المصلين الجمعة، ليقتل بهذه الصورة البشعة التي هانت دونها صور القتل الاخرى.
المسلمون عبر العصور، سنة وشيعة، تبرأوا من هذا الفكر ووضعوه في مصنف واحد: «الخوارج»، والمسلمون اليوم، سنة وشيعة، ملتزمون بموقف واحد، من السيد فضل الله إلى الشيخ القرضاوي، ومن مسيرات الفلوجة إلى شوارع المنامة، كلهم يدينون هذا العمل الإجرامي الطائش الذي لا يبرره دينٌ ولا اختلاف، ولا قانونٌ في الأرض ولا شريعةٌ في السماء.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 361 - الإثنين 01 سبتمبر 2003م الموافق 05 رجب 1424هـ