أهم انتصار لغياب الشهيد محمد باقر الحكيم هو قطع الطريق على أحاديث الطوائف والمذاهب والمناطق. فالعراق (الدولة والمجتمع) لا يستمر اذا ارتفعت أصوات التفرقة والتنابذ في وقت يشكل تمزيق بلاد الرافدين أحد أبرز أهداف الاحتلال.
الحديث عن الطوائف والمذاهب والمناطق في العراق ليس جديدا، فهو اشتد الكلام به وحوله منذ حرب الخليج الثانية (1991) وازداد بعد نجاح قوات التحالف في عزل الشمال عن الوسط والجنوب، وثم في تعطيل امكانات التواصل اليومي (الطبيعي) بين الجنوب والوسط.
قوات التحالف أرادت من وراء توزيع العراق الى مناطق منذ 31 سنة ليس عزل العراق عن العالم فقط بل تطويقه داخليا وقطع الاتصال بين محافظاته لتشكيل نوع من الوحدات السياسية التي تبرز لاحقا اعلان انفصالها حين تأتي الفرصة المناسبة. والولايات المتحدة بعد حربها على العراق ترى أن الفرصة حانت الآن لكسرها ما تبقى من روابط أهلية (نفسية) تجمع الناس في دائرة دولة واحدة ومستقلة. واغتيال السيد الحكيم ليس بعيدا عن هذا المنظور بغض النظر عن الجهة المتورطة في الجريمة والطرف الفاعل (المحرض) عليها. فالنتيجة واحدة في نهاية المطاف وهي منع عودة دورة الحياة الى عراق واحد ومستقل.
الولايات المتحدة تخطط دائما بهدوء وتنفذ استراتيجياتها على مراحل ودفعات. فهي أولا تؤسس الوقائع على الأرض وتلجأ ثانيا الى التذرع بها لتأسيس مشروعاتها السياسية. والمشروع الأصل هو العمل على انشاء دويلات ضعيفة وهزيلة وغير قادرة على الحياة أو الوقوف سياسيا واقتصاديا من دون معونة الأجنبي وحماية قواته. فهذا هو الهدف البعيد من وراء الحرب على العراق. اسقاط النظام هو الهدف القريب بينما اسقاط الدولة هو المشروع الخفي من وراء الحصار والحرب.
وحتى ينجح الهدف لا بد من زعزعة وحدة العراق انطلاقا من خلخلة الثقة بين الناس على اختلاف مناطقهم ومذاهبهم. واغتيال الحكيم المدبر هو وسيلة من وسائل المكر من أجل تحقيق غاية خطيرة وهي اضعاف كل العراق بضرب كل قواه الحية والفاعلة والمعتدلة التي تؤمن بالوحدة والتوحيد.
منذ فترة ليست طويلة حصلت مداولات علنية وسرية عن «العراق ما بعد صدام» في ندوات ومؤتمرات عقدت مرارا وتكرارا في واشنطن ولندن وشمال العراق تركزت على كيفية ادارة العراق لا مركزيا من خلال انشاء دويلات (مراكز قوى) في مناطق ثلاث: الشمال، الوسط، والجنوب. وتحدثت الفعاليات السياسية في تلك الندوات والمؤتمرات عن تمايزات أهلية بين المناطق وطغيان ألوان مذهبية وقومية على تلك المناطق. فالحديث عن تمزيق العراق ليس سرا كذلك لم تكن الندوات والمؤتمرات تعقد للترف الفكري واستمزاج الآراء. كان الهدف غير المعلن هو وضع مختلف الفعاليات السياسية في أجواء المستقبل: وهو العراق لن يكون موحدا.
محمد باقر الحكيم وغيره من طوائف ومذاهب ومناطق أخرى كانوا غير راضين عن هذا النوع من الكلام الذي قصد به ليس تحليل بنية المجتمع السكانية بقدر ما كان الهدف منه زرع بذور الانقسام الأهلي (النفسي) ووضع مختلف الفئات أمام خيارات صعبة: أما صدام واما مجموعة دويلات تديرها مظلة واحدة تشرف عليها قوات الاحتلال (الادارة المدنية). الحكيم وغيره كانوا على النقيض من خط التقسيم. وكان هذا الفريق (وغيره) يدرك أن المخطط ليس اسقاط صدام فقط بل اسقاط العراق (الدولة والمجتمع) أيضا. لذلك تميز الحكيم بالهدوء والحكمة لأنه أدرك من البداية خطورة التطرف. وأدرك أن الاعتدال هو نقطة توازن العراق الجديد... ومنه تنطلق مجموعة اجتهادات تعيد الثقة إلى وطن سرقته اسرة - عشيرة والآن تريد دولة كبرى استباحته حتى تسيطر على ثرواته بأبخس ثمن بتوقيع عقود رخيصة تعطي شركاتها الأفضلية وتكسبها الكثير من الحقوق التي لا تستحقها.
تغييب الحكيم عن الساحة كان القصد منه فتح باب التنافس على «زعامات» لا تتمتع بالثقة والصدقية وعندها الاستعداد (والقابلية) للتوقيع على صفقات وعقود والقبول بما هو معروض من دون نقاش. إلا أن الخطة لم تنجح كما يبدو. فالأمور لا تسير دائما وفق تصورات أجهزة أشرفت على وضع خطط تظن أنه من السهل تمريرها في حال أبعدت الرموز عن الساحة. فالمشروع الأميركي انكشف بسرعة وأسرع مما كانت تتوقعه «البنتاغون».
أهم انتصار لغياب الشهيد الحكيم هو الاحتفاظ بمسافة واسعة عن التفرقة والتنابذ لأنها هي المساحة التي تضمن العراق وتحميه من افتراس المحتل. غاب الحكيم عن العراق والمطلوب رعاية حكمته التي هي السلاح الأقوى ضد الاحتلال.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 360 - الأحد 31 أغسطس 2003م الموافق 04 رجب 1424هـ