شكل الانفجار الذي تعرضت له مدينة النجف أمس الأول بعد صلاة الجمعة وأدى الى اغتيال رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق آية الله محمد باقر الحكيم، صدمة لدى الكثيرين من العراقيين بمختلف شرائحهم وطوائفهم. وعبر البعض عن خشيته من ان يكون هذا الحادث المدبر مقدمة لإشعال فتنة طائفية وعرقية وحرب أهلية بين أبناء شعب العراق. وأثار الحادث الكثير من الاسئلة لدى العراقيين التي قد يجيب عنها المستقبل.
وعلى رغم ان الاتهامات الأولية جنحت الى تحميل أعضاء سابقين في نظام البعث السابق وأنصار صدام حسين مسئولية تدبير الانفجار، فإن بعض الآراء لم تستبعد أن يكون الانفجار من تدبير بعض المتعصبين. وتتجه بعض الآراء إلى أن الهدف من الانفجار هو إثارة الخلافات بين مراجع الشيعة المختلفة.
في حين يُحَمِّل العراقيون قوات الاحتلال مسئولية فقدان الأمن في البلاد وتهاونها في توفيره لشخصيات دينية شيعية بارزة. وكان مسئول في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق قد حذر بعد محاولة الاغتيال التي استهدفت آية الله محمد سعيد الحكيم قبل أيام في النجف، من ان هناك «خطة تنظيمية متكاملة يجري تنفيذها ميدانيّا وتستهدف العناصر الشيعية المؤثرة في العراق».
ويقول المطلعون على بواطن الأمور في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية إن كل الاحتمالات قائمة، ولكن المرجح لديهم هو أن يكون الانفجار من تدبير منظمات إرهابية متعصبة متحالفة مع فلول النظام السابق، والتي سبق أن نفذت عمليات مماثلة خلال الأسابيع الماضية أبرزها حادثا تفجير السفارة الأردنية ومقر الأمم المتحدة في بغداد باستخدام السيارات المفخخة، وهو الأسلوب الذي اعتمد في اغتيال زعيم المجلس الأعلى للثورة الاسلامية.
إلا ان هؤلاء لم يستبعدوا الاحتمالات الأخرى، ومن بينها أن يكون هناك متعصبون وراء التفجير. ويرد هذا الاحتمال إلى ان أصيبوا بـ «رضة» - بالمعنى النفسي - لسقوط صدام، ستتركهم في حال ضياع لزمن قد يطول، لاسيما في المدن، وخصوصا أن نسبة كبيرة منهم كانت في الجيش والإدارات والأمن والأجهزة الأخرى. كما أن بعض الأوساط العلمانية منهم ساءه أسلوب «الكوتا» الطائفية والأثنية التي اعتمدت في تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، الأمر الذي تكرر مع اعتماد الأسلوب نفسه والحصة ذاتها في تشكيل مجلس الوزراء، في حين كان يأمل هؤلاء ان تكون حصتهم من الوزراء أكبر، ما يفسر حال «الغبن» التي شعروا بها مع تشكيل مجلس الحكم. ويرى هؤلاء أن انفجار النجف، وفق هذا الافتراض، كان مقترنا بإعلان «الكوتا» في التشكيلة الوزارية.
كما لا يستبعد الكثيرون أن الانفجار يريد تأجيج الصراع الشيعي - الشيعي، لاسيما ان للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الكثير من التقاطعات مع أطراف وقوى مختلفة. فالمعلوم أن القوى السياسية التي شاركت في تأسيس المجلس الأعلى العام 1982 لم تلبث أن انسحبت منه مثل «حزب الدعوة» و«منظمة العمل» و«جماعة العلماء الفضلاء» وغيرها، بسبب النزوع البرغماتي الذي كان يتهم به محمد باقر الحكيم من قبل خصومه. كما أن علاقة المجلس بالمرجعية الدينية وأقطابها الرئيسية في النجف لم تكن دوما موفقة سواء قبل سقوط نظام صدام أم بعده. علما بأن المجلس حضر بعض مؤتمرات هذه الأجنحة من المعارضة وقاطع البعض الآخر. ويتهم منافسو المجلس من القوى الشيعية الأخرى بأن هناك فجوة واسعة بين المجلس وبين الواقع المعاش داخليّا وهذا ما يمكن أن يشكل أزمة مع الناس مع مرور الوقت. ويتهم المجلس بأنه يتحدث وكأن الأميركيين راحلون، ولم يستحضر بعد فكرة أنهم باقون، وعلى أساس هذه الفكرة عليه أن يتصرف. ويرى قيادي في حزب شيعي «ان الانفجار ربما تحوّل إلى درس بالنسبة إلى المجلس حتى يكف الحديث عن حصص ومشاركة». وأضاف هذا المسئول - الذي رفض ان يذكر اسمه خشية اتهامه بالشماتة لمقتل الحكيم الذي قال إنه يحترمه كثيرا على مستوى شخصي لكنه يختلف معه في توجهاته السياسية - «إن الأمر قد يحتاج إلى أكثر من شهور قليلة للعودة إلى التوازن في الرؤية لدى المجلس». وعلى رغم أن صلاح مهدي من سكان النجف يقول «إن النجف أصيبت بالصدمة والفاجعة بسبب الانفجار الذي هزها وأدى إلى مقتل الحكيم»، ويعتبر ان «حربا شيعية - شيعية، أقرب إلى المستحيل إن لم تكن المستحيل بعينه لأن للنجف خصوصية العلم، ومن يحمل علم آل بيت محمد (ص) لا يمكن أن ينتهي به المطاف إلى حرب أهلية من دون طائل إلا لفائدة الخوارج الجدد الذين تتعامل معهم المدينة بالهدوء الذي عهد في العلماء ومن دون ضجة ولكن بقوة حسم ذي الفقار الإمام علي بن ابي طالب (ع)»... فإن الكثير من سكان النجف يتكلمون منذ وقت عن تنافس على المصلين يوم الجمعة بين محمد باقر الحكيم ومقتدى الصدر. ويقول المنصفون: «في الحقيقة لا يوجد تناقص في عدد المصلين لأي من الاثنين، وكل ما في الأمر هذا (القيظ) من حرِّ الصيف الذي يجعل الكثيرين من الزوار يحجمون عن الجلوس لأكثر من ساعتين تحت الشمس المحرقة، ما قلل عدد الزوار في الصحن الحيدري الشريف». ويضيفون: «غير ان مقتدى أكثر تنظيما في إعداد زيارات جماعية للنجف يوم الجمعة لأهالي مدينة الصدر (صدام سابقا) ذات الكثافة السكانية الشيعية بالمبيت في الصحن الحيدري ليلة الخميس والتوجه نهار الجمعة لزيارة مرقد الشهيد محمد صادق الصدر الذي اغتيل نهاية التسعينات، ومن ثم التوجه إلى جامع الكوفة لأداء مراسم صلاة الجمعة وراء مقتدى الصدر الذي يعد عند كثيرين منهم خليفة والده، ولأن هؤلاء يحضرون في سيارات جماعية يكون عددهم كبيرا في صلاة الجمعة في جامع الكوفة، مقابل عدد أقل من المصلين في الصحن الحيدري الشريف وأكثرهم لا يقصدون المدينة من خارجها لأداء صلاة الجمعة وراء محمد باقر الحكيم بل من أهل النجف وأطرافها والمدن المتاخمة لها».
ويضيف المنصفون أن «صراع المرجعيات» - إذا صح التعبير - سيكون محكوما في قدر منه للتراث والنهج التاريخي للنجف، أكثر مما هو محكوم للاعتبارات السياسية الراهنة. والمرجعية في النجف في المحصلة هي مرجعية دينية بالدرجة الأساسية، لذلك ستكون الاعتبارات المتحكمة في صوغ بنية النجف اعتبارات دينية أكثر مما هي سياسية. إن في الحوزة تيارات سياسية، بعضها كان متباعدا عن البعض الآخر قبل انهيار النظام ودخول الأميركيين، وقد حاولوا اللعب على هذه المسألة، للتفاعل على نحو سلبي. كل هؤلاء حوزة ونحن معهم بغض النظر عن خلافاتهم. ومن المعلوم ان السيد الحكيم يطرح نفسه باعتباره المرجع لما بات يطلق عليه المجلس الأعلى «المرجعية المتصدية»، في حين يطرح الشاب مقتدى الصدر باعتباره الممثل الرئيسي لما يسمى بـ «الحوزة الناطقة». وبحسب المتتبعين لشئون المرجعية في الطائفة الشيعية فإنه تبقى نسبة التقليد الأوسع لدى الشيعة للسيد السيستاني بالمعنى المرجعي على مستوى العراق وخارجه. والنسبة الثانية هي للسيد محمد سعيد الحكيم، إنما داخل العراق فقط. أما المراجع الأخرى فتمثيلها محدود جدّا. التمثيل السياسي لدى السيد محمد باقر الحكيم واسع نسبيّا. بينما التمثيل المرجعي فيحاول تأسيسه على الماضي، على مرجعية أبيه القديمة، مع أهلية فقهية لا تصل إلى حد جعله مرجعا مع إشكال وجود مرجع حقيقي من آل الحكيم هو ابن شقيقته السيد محمد سعيد الحكيم. أما مقتدى الصدر فيمثل حالا شعبية تعاني من شيء من الالتباس، وتأسست هذه في فترة حصار شديد للمرجعية في النجف بعد انتفاضة العام 1991. واستفاد النظام من غياب الخوئي بالموت فتصدى السيد محمد الصدر للمرجعية بقرار ذاتي، وقد تغاضى عنه النظام حتى قوي هذا التيار وامتد الى قوى شعبية غير مسيسة، حاول الصدر الاستقواء بها على النظام السابق لفرض بعض مطالبه فقُتل. وبحسب هؤلاء المتتبعين لشئون المرجعية فإنه لا تمثيل مرجعي للسيد مقتدى الصدر وتياره، إلا في حدود ما تبقى من الموروث في السياسة والدين، وهذا الموروث مرشح للتناقص بعد استعادة النجف حركتها وحيويتها.
ويشير هؤلاء إلى أن السيدين محمد باقر الحكيم ومقتدى الصدر يتكئان على موروث، . فالسيد الحكيم يتكأ على وزن والده المرجع السيد محسن الحكيم صاحب الباع الطويل في الدفاع عن النجف ودورها، وقبلا عن العراق بوصفه كيانا وطنيّا. والصدريون يستندون إلى السيد والمرجع محمد باقر الصدر الذي حاول تجديد المرجعية وتأطيرها عبر حزب الدعوة الذي كان أحد مؤسسيه ثم لم يلبث أن انسحب منه احتياطا لاحتمالات نجاح الثورة الإيرانية العام 1979 إذ أمكن اعتقاله ثم اعدامه، ومن ثم إلى والد مقتدى محمد صادق الصدر الذي اغتالته السلطات العام 1999.
ولكن هؤلاء المنصفين يؤكدون انه لا وجود للصراع الحقيقي بين كل هذه الأجنحة والقوى الشيعية، وأن القواسم المشتركة بينهما أكبر وتتمثل في رفض الاحتلال الأميركي وتأكيد حرية الشعب العراقي في اختيار نظامه والانفتاح في دائرة النظام بما يأخذ في الاعتبار تنوعات الشعب العراقي مع المحافظة على احترام الإسلام والإفادة منه. ومما يزيد من القواسم المشتركة بين السيدين والحكيم أن كليهما يمثل تيارا يعود إلى محمد باقر الصدر، فالمعلوم أن محمد باقر الحكيم نفسه تتلمذ على يد محمد باقر الصدر لمدة تصل إلى حوالي 20 عاما. ومن المعروف عنه انه كان من أوائل المنضوين في إطار حزب الدعوة الإسلامي، لكنه انسحب منه في فترة مبكرة بإيعاز من والده الذي وجد ضرورة الفصل بين المرجعية والحزب. وفي كل الأحوال هناك خشية متزايدة لدى العراقيين من ان مثل هذه العمليات التي تطول رموزا دينية أو بعثات دولية ودبلوماسية من شأنها أن تطيل أمد اللااستقرار في بلادهم ويمكن أن تجره إلى حمام دم لا ينجو منه أحد ويكون الخاسر فيه، مهما تعدد الرابحون، هو الشعب العراقي والعراق
العدد 359 - السبت 30 أغسطس 2003م الموافق 03 رجب 1424هـ