أود أن أقول للأستاذ محمود جناحي الذي أعلن الحرب في رده في «الوسط» علي، وتحول إلى «إرهابي»: أنا لم أسحب رخصة «الرصانة» من كتابتك وليس من حقي ذلك، فأنا لست جهاز رقابة في وزارة إعلام عربي متخلف يتكئ على قانون مطبوعات جائر، ولست رئيس جهاز أمن عربي يتكئ على قانون أمن بل شخص عادي أبدى ملاحظته بدعوتك إلى الكتابة الرصينة، وحين دافعتُ عن الشيوعيين العرب كان من منطلق «ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى» (المائدة: 8).
وإن الكم من الأسماء التي أتيت بها على أنهم ارتدوا عن أفكارهم الماركسية ثم كشفوا أخطاءها وفعل ذلك معظهم بسبب انهيارهم لما فعل النظام الظالم بهم بعد أن لم يتحملوا سياط التعذيب، هذا لن يغير من الأمر شيئا إذ لا تعني ردة خمسة أو ستة أشخاص من بين الآلاف أن هذه النظرية خاطئة على الأقل في جانبها الاقتصادي فهناك الكثيرون من المسلمين الذين كانوا يرتدون عن الإسلام حتى فرض قانون شديد يمنع على الإنسان الذي يدخل الإسلام الخروج منه وإلا كانت عقوبته الموت، أنا لست محاميا ومستشارا قانونيا للشيوعيين، ولكني ذكرت ذلك من منطلق الحرص على عدم ظلم عناصر ناضلت وضحت من أجل الحرية والديمقراطية، وقاتلت ضد الأنظمة العربية الشمولية الظالمة التي سرقت ومازالت تواصل نهب لا قوت الشعب فحسب بل حتى حريته وإنسانيته. وجاء دفاعي في مرحلة رديئة بلغ الطغيان الأميركي والإسرائيلي فيها حد التآمر على وجود الإسلام وصار أي مسلم يعطي بضعة دنانير للجمعيات الخيرية أو يساعد المقاومة الفلسطينية أو يطلق ذقنه سنة ويصلي بضع ركعات في المسجد إنسانا إرهابيا يجب وضعه في سجن غوانتنامو! هل حدث هذا في زمن العلاقة بين السوفيات وعدد من دول الشرق الأوسط؟ هل حدث يوما أن طالب الاتحاد السوفياتي بمحاكمة 12 ألف مسلم بتهمة «الإرهاب» كما تطالب الولايات المتحدة اليوم؟ هل يجوز ان تطالب واشنطن باعتقال 1400 إمام مسجد بحجة إعادة تأهيلهم؟
فلماذا تلقون الحجارة على عناصر لم تسئ إلى الإسلام؟ وحتى حين استشهدت بأن لينين قال (الدين أفيون الشعوب) فإنه كان يتحدث عن الدين المسيحي وفي تلك المرحلة التي صارت الكنيسة فيها تقف في وجه الثورة الجديدة، ولم يكن يقصد بذلك الدين الإسلامي.
أنا لست معنيا بالدفاع عنهم فهم ليسوا أبناء عمومتي، ولكن من حق هؤلاء علينا - وخصوصا من لم يفعلوا معشار ما فعله بنو بوش وبنو شارون ضد المسلمين - أن نذكر من يخوض الحرب ضدهم ويحاول إشعال فتنة نائمة بعدم جواز ذلك من منطلق (قل الحق ولو على نفسك) ومن منطلق «ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه» (البقرة 283) إذ عند المقارنة بينهما... بين رأسمالية عفنة تريد سحق المسلمين ومحوهم من الوجود بعد أن تخلصت من المارد الأول ليأتي دور المارد الثاني وهو الإسلام حسب رأي بريجسينكي الأميركي ليتم القضاء عليه، هنا تكمن المقارنة... لقد ذكرت مرة حكاية في أحد مقالاتي أود لو أعيدها لتقريب وجهة نظري: يقال ان طيرا صغيرا من نوع خاص كان يضر بما يصل خمسة في المئة من إنتاج القطن في الصين، ولكنه كان يأكل الديدان التي فيه. فقررت الحكومة ذات المليار نسمة ان تقضي على هذه الطيور فمنحت جائزة لكل من يقتل عشرة منها، وتمكنت الحكومة الصينية بهذه الوسيلة من أن تقضي على معظم هذا النوع من الطيور فماذا كانت النتيجة؟
حدث أن دودة القطن صارت تقضي على أكثر من 60 في المئة من القطن لاحقا، فندمت الحكومة الصينية على فعلتها، فالله سبحانه وتعالى لم يفعل شيئا إلا وفيه حكمة.
ثم ألم تكن من حكمة الله أن خلق توازنا يحفظ الإسلام من خطر الرأسمالية والصهيونية بوجود الاتحاد السوفياتي فَلِم نريد زوال من قالوا مجرد بضع عبارات عن الدين وعن المادية من دون أن يقاتلونا أو يخرجونا من ديارنا ولم يتهموا كل شخص يؤدي فرائض الإسلام على أنه إرهابي كما يفعل الأميركان اليوم؟ وكان يعيش بينهم عشرات الملايين من المسلمين ولهم مساجدهم وأئمتهم ومرجعياتهم، ألم يقل سبحانه وتعالى: «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» (الحجرات: 13) وقوله تعالى: «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة» (المائدة: 48)؟ ثم أليس من الإجحاف أن نحارب قوما لم يحاربونا ولم يحاولوا إخراجنا من ديارنا، وهذه هي نقطة الاختلاف بين وجهتي نظرنا. ثم يكفيني ميزانا دقيقا لطهارة الرفاق العرب هو أن الأنظمة العربية بكل ثقل آثامها وتجاوزاتها التاريخية تجاه شعوبها هي التي تجعل منهم هدفها الأول، إذ تزج خيرة مثقفيهم في السجون وتحاربهم في أرزاقهم وتضيق الخناق عليهم دون غيرهم، فلا يمكنك أن تقنعني انها تفعل ذلك من منطلق ديني صادق فمعظم هذه الأنظمة لا يهمها غير مصالحها وغير ما يبقيها على كراسيها.
هذه هي الرصانة حسب اعتقادي فمواصفات الرصانة: العقلنة والطرح المنطقي واللهجة المعتدلة والموضوعية واختيار الموضوع الذي يتناسب مع الزمان والمكان، إني لم أحول نفسي إلى أستاذ بل إلى ناصح، واعتقد انك كأحد العناصر الإسلامية تدرك أكثر من غيرك الحديث الشريف الذي يقول: (الدين النصيحة) فتهكمت بأنني أقوم بنصحك. ولا أتمنى أن تفقد أعصابك، فالمؤمن لو اقتدى برسوله (ص) فهو ذلك الذي يكون حليما صبورا متحاورا هادئا من منطلق «وجادلهم بالتي هي أحسن» (النحل: 125). وقد أبديت ملاحظاتي من منطلق التوضيح ومن دون خبث أو عداوة، ولكنك ثارت ثورتك لتتهكم وتطلب مني أن أدلك على الجامعة التي تذهب لتتعلم فيها تعليقا على كلامي حتى لا تنتحر في بحر لا تعرف العوم فيه، فهل نسيت أن الآية الكريمة تقول «نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم» (يوسف: 76) فأنت على رغم علمك وثقافتك وربما دراستك الجامعية، ولكنك كما قالت الآية الكريمة: «إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا» (الاسراء: 37).
ولا أعتقد أن أحدا يحق له أن يمنع أي إنسان من إبداء الملاحظات التي يريدها، ولكن الاعتراض يأتي على الوقت والطريقة وشكل النقد لسبب حساس هو ان هناك مراحل للأمة يجب ألا تشغل فكرها وذهنها بقضايا جانبية بل تركز على القضايا المحورية حتى لا تشتت جهود الأمة وتفتح ثغرات في جدار تلاحمها، فكل الأقلام العربية والإسلامية الشريفة مدعوة اليوم إلى شحذها وتوجيهها للدفاع عن وجود هذه الأمة التي استباحتها الصهيونية العالمية المدعمة من الولايات المتحدة وأوروبا وما عدا ذلك فهو ترف فكري، ومع ذلك فأنت حر يا جناحي أن تكتب ما شئت عن (حب الفساد... عن حبة الخضرة... عن زفت الطين) وكما يقول المثل: (يا بدو ناصحكم في النار).
إني لم استخدم الغمز واللمز في علاقة أميركا معك أو اتهامك بالعمالة بل أردت أن أقول إن فتح ملفات جانبية تخدم الولايات المتحدة التي يجب التركيز عليها وإنهاكها بدل أن نتحدث عن البوذيين وعيوبهم والهندوس ومشكلاتهم والشيوعيين وماضيهم... فهذا يمكن تأجيله والحديث عنه في أوقات الراحة والفراغ والاستجمام والترف الذهني.
واستشهدت ببعض المقالات التي سبق أن كتبتها عن تجاوزات وإجرام الولايات المتحدة، وعلى رأي المصريين (وماله؟) لماذا لا نكتب المزيد من ذلك؟ لماذا لا يكون ذلك همنا الأول وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث...
ثم تنتهي إلى شكر تهكمي أخيرا وتُبين أنك مسلم ملتزم، والمسلم لا ينتحر وهذا ما سرني حقيقة، ولكن المشكلة اليوم هي أن الإسلاميين حسب تهمة الإدارة الأميركية - وليس الشيوعيين - هم طليعة الانتحاريين أو الاستشهاديين... عموما شكرا لتعاطفك معي إذ لم تطلب هدر دمي، وأحمد الله على ذلك
العدد 358 - الجمعة 29 أغسطس 2003م الموافق 02 رجب 1424هـ