عبرت «جمعية النساء الديمقراطيات» في تونس عن «بالغ قلقها» تجاه العودة القوية إلى الحجاب. وأكدت في نص مطول صاغته بمناسبة مرور 47 عاما على ذكرى صدور مجلة «الأحوال الشخصية»، أنها كجمعية نسوية ترفض هذا اللباس الذي يرمز - حسب اعتقادها - إلى «انغلاق النساء وتراجعهن»، والذي يشبه الزي المنتشر في بلدان «لاتزال فيها النساء يخضعن لنظام تعدد الزوجات والتطليق من طرف واحد وأشكال أخرى من التمييز».
كما هاجمت النسويات التونسيات في بيانهن الفضائيات التي تروج للحجاب وتعتبره «رمزا للصمود في وجه الغرب الغازي»، وانتقدت الحركات الإسلامية التي اتهمتها بكونها حاملة لمشروع ظلامي، وزعمت أن النساء في تونس يعتقدن أن الحجاب يشكل «تهديدا لحقوقهن» وأنه رمز لاستلاب المرأة وترسيخ لتبعيتها وحط من قيمتها. كما اعتبرت أن موقف السلطة من مقاومة الحجاب «ليس واضحا». وبناء عليه وجهت الجمعية نداء إلى المجتمع المدني المحلي وقواه الديمقراطية، ودعت الجميع إلى اتخاذ مواقف صريحة من هذه الظاهرة، معتبرة أن الهدف من هذا الحوار هو الوصول إلى علمنة المجتمع التونسي.
يعتبر بيان «النساء الديمقراطيات» أول وأعنف رد فعل يصدر عن جهة غير حكومية ضد ظاهرة إقبال آلاف الفتيات والنساء التونسيات على ارتداء بالحجاب. وهي الظاهرة التي كانت منتشرة جدا خلال الثمانينات، قبل أن تتولى السلطة القضاء عليها بالضغط والمنع ضمن خطة الاستئصال التي نفذتها ضد الحركة الإسلامية، ولكنها عاودت الظهور بقوة خلال السنوات الثلاث الماضية. والذي حير السلطات والنسويات وعددا من المثقفين المعروفين بمعارضتهم الشديدة للإسلاميين أن عودة مظاهر التدين الى الحياة الاجتماعية التونسية لم تقف وراءها هذه المرة قوة سياسية منظمة كما كان الشأن في السبعينات، وإنما تنامت الظاهرة ولاتزال بشكل عفوي ما جعلها تعبيرة ثقافية اجتماعية دينية أكثر منها حركة احتجاج سياسي. وما زاد في توتر هذه الأوساط التي فاجأتها وأرقتها ظاهرة التحجب السريع وغير المنظم، حال الانحسار التي تمر بها هذه الأوساط وغيرها من الفعاليات الديمقراطية التحديثية. فعدم التواصل بين هذه الأطراف وبين قطاعات عريضة من المجتمع التونسي ساعد بشكل قوي في جعل جزء من التونسيات يرهفن السمع للخطاب الديني الذي تبثه بعض الفضائيات، ويتأثرن به على رغم تعارضه في جوانب كثيرة مع المكتسبات التي حصلن عليها خلال الخمسين سنة الماضية. وبدل أن تحاول هذه الأطراف المنزعجة من الحجاب فهم الأسباب العميقة التي تقف وراء التحولات الثقافية والاجتماعية الحاصلة بصمت والمتناقضة مع التوجهات والسياسات السائدة فإنها تتورط في ردود فعل متشنجة أحيانا ومخالفة لحقوق الإنسان أحيانا أخرى.
الخلط مرة أخرى بين الإسلام السياسي والتدين
الخطأ الذي سبق للسلطة أن ارتكبته في مواجهتها للإسلام السياسي، ترتكبه الحركة النسوية ومن يقف إلى جانبها في هذه المعركة ضد الحجاب. فبعض الذين سبق لهم أن قدموا خدماتهم إلى السلطة أثناء مقاومتها للإسلاميين لم يميزوا يومها بين خصومهم السياسيين وبين مظاهر التدين، ما جعل الأجهزة الأمنية تتوسع في حربها إلى أن اختلط الحابل بالنابل، وأصبح مجرد أداء صلاة الفجر في المسجد شبهة قد تقود صاحبها إلى ما لا تحمد عقباه. وهو خطأ فادح ألحق أضرارا جسيمة بالسلطة وخدم كثيرا خصومها. اليوم، وعلى رغم أن المتحجبات «الجدد» لم يطالبن بتغيير مجلة «الأحوال الشخصية» ولم يعلن استعدادهن للتنازل عن حقوقهن التي ضمنتها هذه المجلة التي تعتبر مكسبا تاريخيا، إضافة لكونهن في قطيعة فعلية مع «حركة النهضة» أو غيرها من الحركات السياسية، ولم يثبت أن المتحجبات الجدد يتعرضن لضغوط من قبل أفراد عائلاتهن أو من أية جهة أخرى لارتداء هذا الشكل من اللباس، مع ذلك يجدن أنفسهن حاليا عرضة لهجوم مزدوج. فمن جهة هجوم السلطات، اذ استأنفت أخيرا التحريات الأمنية في شأنهن، وعاد رجال الأمن إلى استنطاق أعداد منهن، ومحاولة معرفة من يقف وراء قرارهن ارتداء الحجاب، والضغط عليهن من أجل الالتزام بمراكز الشرطة على تعهد بعدم حمل «الفولار» مرة أخرى وإلا قد يتعرضن للملاحقة القضائية. ومن جهة أخرى تحاول «الحركة النسوية» ممارسة ضغط فكري وأيديولوجي عليهن لإشعارهن بأن مجرد حجب بعض أجزاء من أجسامهن يشكل في حد ذاته مسا بمبدأ المساواة وتهديدا خطيرا لكل المكتسبات التي تحصلت عليها التونسيات. بل ذهبت الجمعية في بيانها إلى حد مطالبة الدولة بتحمل مسئوليتها في التوسع الذي تشهده هذه الظاهرة، والادعاء بـ «غياب موقف سياسي واضح فيما يتعلق بحمل الحجاب». وهو موقف أثار استغراب الكثيرين، واعتبره البعض تحريضا للسلطة ضد المتحجبات من قبل جمعية عرفت بمواقفها المناهضة للقمع والتعسف وخصوصا ما يتعلق بكل ما يمس النساء.
الحوار يفترض مناخا
ومشاركة الجميع
صحيح أن الجمعية حاولت أن تستدرك هذه الهفوة ذات الحجم الثقيل، وذلك بتأكيد أن الحداثة التي تأخذ في الاعتبار المساواة واحترام الحريات «لا تتحقق باضطهاد المتحجبات ولا بتبسيط مسألة الحجاب». مع ذلك فإن الحوار الوطني الذي تطالب به «النساء الديمقراطيات» - كرد على الظاهرة وسعيا إلى تطويقها - يبقى عمليا غير ممكن في ظل الظروف السياسية الراهنة التي لا تسمح لحاملات الحجاب بالتعبير عن آرائهن والدفاع عن قناعاتهن سواء على صفحات الصحف أو في التلفزيون كما يحدث في فرنسا مثلا. فهن مهددات في وظائفهن وفي دراستهن، فكيف سيسمح لهن بالمشاركة في «حوار وطني» أصبحت تحتاجه الساحة التونسية أكثر من أي وقت مضى، وينتظره التونسيون بفارغ الصبر لتناول هذه القضية وغيرها من القضايا الحارقة والمصيرية والمعلقة. هذا الحوار قد يكون ممكنا في حال واحدة إذا كان الداعون إليه يريدونه حوارا دائريا مغلقا، يشارك فيه فقط خصوم الظاهرة وتقصى عنه اللاتي صنعن الظاهرة. فإذا كان هذا هو المقصود من دعوة المجتمع المدني، فلاشك أن الأمر لا يتعلق بحوار، وإنما هو عملية إشباع ذاتي واستمرار الدوران في حلقة مفرغة، وتعميق لقطيعة خطيرة داخل المجتمع الواحد.
الخوف من تكرار أخطاء الماضي
إذا كان من الطبيعي أن تعبر النسويات عن قلقهن تجاه احتمال حدوث تغييرات اجتماعية وسياسية يعتقدن أنها قد لا تكون في صالح النساء، ففي المقابل يعتبر من المتوقع أن يكون الإسلاميون في مقدمة من يتصدون لمثل هذا الهجوم، ويحاولون احتكار الدفاع عن مظاهر التدين في المجتمع. من هذا المنطلق أثار نص النساء الديمقراطيات والبيان المشترك الذي أصدرنه في الغرض نفسه بالتنسيق مع «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» وفرع أمنستي بتونس ردود فعل عاصفة داخل صفوف الإسلاميين. وكما تميز نص النسويات بهجوم شديد اللهجة على ظاهرة الحجاب والقوى الافتراضية التي تقف وراءها، فقد جاءت ردود عدد من الإسلاميين عنيفة وقاسية في ألفاظها وإقصائية في منطلقاتها، بلغت حد اتهام عضوات منظمة النساء الديمقراطيات بـ «الإباحية المغالية والاستهتار والانتهازية». وفي ذلك خروج عن أخلاقيات الحوار، وتجاهل للنضالات التي قام بها عدد من النساء التونسيات من بينهن عضوات في هذه الجمعية، والتضحيات التي قدمنها دفاعا عن حقوقهن وعن الحريات والمطالب الديمقراطية في الظروف الصعبة. وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى ما تعرض له بعضهن من اعتداء وملاحقة أمثال سهام بن سدرين وراضية النصراوي وبشرى بلحاج حميدة وخديجة الشريف وسهير بلحسن وفاطمة قسيلة. إن التشنج ورد الفعل يوقعان في الشطط وعدم الموضوعية والتطرف المضاد.
إن ما يخشاه عدد من الديمقراطيين التونسيين هو أن يؤدي هذا النوع من الجدل إلى حصول انحراف في الأولويات، وانزلاق جديد ينقل المعركة من مستواها السياسي المتعلق بالنضال من أجل كسر الاحتكار وتوسيع نطاق الحريات الفردية والعامة، ويحولها مرة أخرى إلى معركة أيديولوجية مفتوحة بين الإسلاميين وخصومهم، معركة لا تحكمها ضوابط أخلاقية، يسودها الإقصاء المتبادل، وتغذيها الرغبة في الانتقام وتصفية الحسابات، ويكون الخاسر فيها الديمقراطية. إن الاختلاف بين الطرفين سيبقى قائما، نظرا لوجود تباينات عميقة في رؤيتيهما للمجتمع والدولة، ولكنهما مطالبان بمأسسة الصراع بينهما وتوفير المناخ الملائم لذلك. مناخ أول شروطه توفير الحق في التعبير والاعتقاد والتنظيم
العدد 358 - الجمعة 29 أغسطس 2003م الموافق 02 رجب 1424هـ