العدد 358 - الجمعة 29 أغسطس 2003م الموافق 02 رجب 1424هـ

«تجفيف» الذاكرة والبديل المستحيل!

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

بعيدا عن مسرح المواجهة السياسية والاعلامية المباشرة واليومية، ثمة من يعتقد أن معركة شرسة تدور رحاها خلف الستار وفي العمق من مخطط المواجهة الدائرة منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بين «سيدة العالم الأولى» أي الولايات المتحدة الأميركية والكثير من دول العالم الثالث هدفها الأساسي نزع «المشروعية» عن الكثير من الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان اما بحجة كونها «مارقة» على أعراف المجتمع الدولي - النادي النووي والدول الصناعية الكبرى - أو بحجة تورطها في نشاطات مفضية الى صناعة «الارهاب» وفي كل الأحوال بحجة افتقارها الى «المقبولية الشعبية». ولا فرق هنا أن تكون هذه الأنظمة التي يراد الاطاحة بها عمليا أن تكون دولا «معادية» أو مصنّفة «صديقة» أو حتى «حليفة» للمجتمع الدولي السالفة الذكر وسيدته الأولى.

من هنا فإن جغرافية المواجهة تتسع عمليا لدول مثل العراق وإيران وكوريا الشمالية التي وضعتها الولايات المتحدة ضمن ما اطلقت عليه «محور الشر» كما تتسع لدول صديقة وأحيانا حليفة مثل السعودية وباكستان ومصر ناهيك عن انطباقها على أية دولة في المنطقة الرمادية بين هذه وتلك مثل سورية أو لبنان كما يمكن اضافة أية دولة تخطر ببالنا لمجرد أنها غير متوائمة مع المشروع الكلي لأصحاب نظرية «اعادة رسم خريطة العالم بما يعزز مصالح الولايات المتحدة الأميركية انطلاقا من الشرق الأوسط وتحديدا من ساحة العراق» كما أشار أكثر من مسئول أميركي وفي أكثر من مناسبة وبأكثر من أسلوب وصيغة. وتقع السلطة الفلسطينية اليوم في عين العاصفة من هذه المواجهة «الخلفية» المفتوحة لأكثر من سبب وأكثر من دليل:

أولا: لا يمكن للإدارة الأميركية الحالية مطلقا أن تتصور يوما أنها تعقد تسوية ناهيك عن مصالحة مع «القاتل الأول» لحليفها الاستراتيجي أي الاسرائيلي لاسيما في ظل الحكم الشاروني الحالي الذي لا يمكن أن يتصور نهاية لهذا «القاتل» إلا بالتصفية الجسدية والمعنوية معا. وهذا الأمر ينطبق على ياسر عرفات كما على محمود عباس (أبومازن) والذي يمتلك الاسرائيليون وثائق ومستندات عنه بالتأكيد كيف أنه كان من المنظرين لحرب «الابادة الجماعية للصهاينة داخل أراضي الـ 48 لإجبارهم على الرحيل وترك الأرض الفلسطينية لأصحابها»، وهو ما ينطبق على كل الرعيل الأول والصف المتقدم من أعضاء في اللجنة المركزية لحركة فتح (الحركة الأم لحركة التحرر الفلسطيني)، بمعنى آخر فإنها - أي «اسرائيل» والادارة الأميركية بصورتها الراهنة - لا يمكن أن تغفر لأحد من مفاوضيها ناهيك عن مناكفيها الحاليين من الفلسطينيين أنه حمل يوما بندقية الثورة ضد الاستيطان والاحتلال واغتصاب الأرض والحقوق. من هنا يظهر الصوت الحقيقي لشارون ومشروعه «الدولي» على لسان بعض وزرائه بين الحين والآخر، وهو يطالب بتصفية جميع رموز السلطة الأساسيين من عرفات مرورا بمحور عباس وصولا إلى القيادات الوسطى والقاعدية، واستبدالها بوجوه جديدة يتم بلورتها في اطار ما سمته الإدارة الشارونية «انتخابات حرة تحت مظلة جيش الاحتلال».

ثانيا: تقييم الإدارة الأميركية الحالية وادارة شارون بشكل أولي للسلطة الفلسطينية باعتبارها واحدة من «الأنظمة» الشريكة والمسئولة عن احتقان «الارهاب» ورعايته في العالم، بما يترتب عليه من مسئولية مباشرة في حوادث 11 سبتمبر/أيلول، وبالتالي ينبغي أن تكون في «عين العاصفة» التي يقودها التحالف الدولي ضد الارهاب العالمي!

ثالثا: أن تعتزم الولايات المتحدة تغيير خريطة العالم بما لا تحتمل فيه موقعا مميزا لأوروبا «العجوز» أو القديمة وهي حليفتها الاستراتيجية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ضمن باب أولى أن تضع في صميم استراتيجيتها الجديدة وفي أولوياتها التخلص من ارث الحرب الباردة و«البؤر المتفجرة» التي ترعرعت في ظل تلك الحرب وفي طليعتها المقاومة الفلسطينية الرمز الأكثر تعبيرا لحركات تحرر العالم الثالث.

ثمة من يعتقد من بين المحللين والمراقبين السياسيين عن كثب لما يجري تحت طاولة المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية وليس فوقها، أن خطة الاسرائيليين الحقيقية - والتي تحظى بضوء أخضر أميركي خافت أحيانا وصارخ في أحيان أخرى - هي الدفع بمحور عباس وكبار فريقه المفاوض للتحول الى «قتلة» في نظر شعبهم أي تلطيخ أيديهم بدماء رفاقهم القدامى، وبعد ذلك يتم اسقاطهم معنويا ومن ثم جسديا فيتخلصون منهم وإلى الأبد، تحضيرا لمرحلة قيام «السلطات التابعة» الهزيلة التي لا تملك من ذاكرة الماضي المؤرق للاحتلال شيئا يذكر. ثمة من يعتقد أن هذه الحال يفترض أن تعمم في ايران كما في السعودية كما في سورية كما في مصر كما في باكستان. هل نحن أمام مشروع «تجفيف منابع الذاكرة» واسقاط كل ما يتعلق بخصوصيات الذاكرة الوطنية والقومية والدينية لشعوب ما قبل العولمة الأميركية كما يعتقد البعض؟

قد يكون من الصعب القطع بذلك من دون معرفة المزيد من الأدلة والبراهين، ولكن من الصعب أكثر تفيد وجهة النظر هذه في ظل ما نراه من اطلاق نار كثيف ومتعمد على كل ما هو اعتدالي ووسطي وسط اصرار منقطع النظير على افشال رموز ذلك المسار بحجة أنه «غير حازم» أو «غير جاد» في محاربة الارهابيين واجتثاث جذورهم

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 358 - الجمعة 29 أغسطس 2003م الموافق 02 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً