إن رياح التغيير كما يبدو بدأت تطول كثيرا من المؤسسات العربية في مختلف أقطارها كان آخرها ذلك الانقلاب الحقيقي الذي حدث أخيرا على نقابة الصحافيين المصريين حين سقط مرشح الحكومة بعد عشرين عاما من احتكار منصب نقابة الصحافيين المصريين.
وبلوغ المعارضة هذا الموقع يعني الكثير لعدة أسباب يأتي في مقدمتها أن الصحافة المصرية لها دورها في حياة الشعب المصري وحين تكون الثقافة في يد عناصر لا تجامل الحكومة ولا تأتمر بأوامرها قادرة على فرض الكثير، وعندما يأتي التغيير بهذه القوة وبهذا الكم من فارق الأصوات بحيث يبلغ أكثر من 400 صوت هذا يعني أن المثقفين بلغوا مستوى من الإحساس بالقهر والإحباط ما يجعلهم يتمردون على كل مغريات الحكومة التي تعودت أن تسقطهم في حبالها ولأن الانتخابات جرت تحت إشراف قضائي ونجحت المعارضة بهذا الفارق فهذا يعني أن اللعبة فيما قبل ربما كانت تصل أيضا إلى صناديق الانتخابات حتى في أكثر المواقع قدسية للديمقراطية ما دفع المعارضة إلى أن تطالب بضرورة أن تأتي الانتخابات تحت إشراف القضاء لشعورها بأن نتانة أسلوب التلاعب تتعدى الانتخابات البرلمانية والمؤسسات الشعبية الأخرى لتصل إلى صناديق النقابة الصحافية.
ربطتني معرفة عابرة في مطلع السبعينات بجلال عارف الذي كان يعمل في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية عندما عملت في هذه الصحيفة لمدة عام واحد قبل أن أتحول إلى مراسل لها في الإمارات الشمالية، كنت أسمع عنه من قبل رئاسة الصحيفة انه شاب ذكي للغاية لديه حس مختلف ومرهف للغاية في الساحة الصحافية.
ويبدو أن نظرتهم لم تخب وكان بين رئاسة الصحيفة المرحوم مصطفى شردي الذي تولى صحيفة حزب الوفد بعد عودته إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.
وها هو ذلك الشاب الخجول صاحب الحس الصحافي المرهف قد شق طريقه ليصبح اليوم رئيسا لنقابة الصحافيين المصريين بكل ما للصحافة المصرية من ثقل واتساع وانتشار على الأقل في الساحة المصرية ذات الـ 60 مليون نسمة.
والمعروف أن المواطن المصري على رغم ما يشتهر به من روح النكتة وميوله إلى الكوميديا، إلا التاريخ، يكشف أنه في الوقت نفسه شعب صعب وصلب، إذا رفض أمراَ لم يقتنع به مستعد لأن يضحي بكل مصالحه في مقابل تحقيق قناعاته، فهو شعب عاطفي وصاحب نكتة نعم لكنه شعب عربي له تاريخ عريق في الدفاع عن مقدسات أمته وعن حريته وليس أدل على ذلك من انه بعد مرور أكثر من عقدين على اتفاق التطبيع بين مصر و«إسرائيل» رسميا فإنه يرفض على أرض الواقع أن يقبل بهذا التطبيع، كما أن المعروف عن الشعب العربي المصري قدرته على التحمل طويلا لكنه إذا بلغ درجة الغضب ووصل إلى درجة الانفجار، فإنه صلب في انفجاره ولا داعي لذكر بطولات هذا الشعب عبر التاريخ، فالمواطن العربي يعرف هذا التاريخ، لكن الميزة الأخطر والأهم فيه هي انه شعب شديد التشبث بالدين، وهذا ما جعل حزب (حدتو) الشيوعي المصري الذي عمل بكل جدية لا يفلح في خلق قاعدة عريضة في الشارع المصري بل من الطريف أن عضوية هذا الحزب الشيوعي لم تكن تمنع أمين سر حزبه خالد محيي الدين من أن يترك خليته ليصلي فور ما يسمع أن المؤذن رفع صوته للصلاة... ولهذا فإنه حتى اليسار المصري يسار متدين، فكلمة (ربنا) تجدها حتى على لسان المصري الذي ربما هو جالس مع رفاقه يتعاطى الحشيش خلال تجمعات الشيشة.
ونجاح جلال عارف الناصري في أن يصبح نقيبا للصحافة المصرية وحصوله على 1758 صوتا مقابل 1475 لمنافسه مرشح الحكومة صلاح منتصر يعني ـ ومن خلال استقبال حار وفرح عارم نقلته الفضائيات ـ الكثير وكما قال أنصاره إنه انتصار لرغبة التغيير.
و قال بعد فوزه خلال وجوده في قاعة الانتخابات كلمات دقيقة ومعبرة، حين قال: إن المرحلة المقبلة مرحلة صعبة سواء على مستوى العمل النقابي أو على مستوى التحديات التي تواجه الوطن.
هذه الكلمات على رغم قلتها فإنها تكشف عن عدة أمور، أهمها:
* رغبة النقابة في مواجهة التحديات الرسمية والخروج من إسارها لتأخذ الصحافة المصرية دورها القومي بشكل يساير التحديات الخطيرة التي تواجهها الأمة العربية من جهة والشعب المصري من جهة ثانية.
* إحساسه بصعوبة المرحلة، لأن الحكومات العربية لا تستسلم بسهولة لرياح التغيير إذ يزعجها خروج أية مؤسسة وبوجه خاص الصحافة من تحت سيطرتها، وهنا تكمن الصعوبة، فالوضع كما يبدو سيصبح ساخنا جدا بين النقابة وبين الجهات الرسمية.
* مصر تواجه تحديات كبرى والمثقف المصري وخصوصا في الساحة الصحافية يشعر أن النظام لا يتحمل دوره التاريخي بالشكل المطلوب منه ما يجعل المرحلة مرحلة صعبة بحاجة إلى تغيير ومواجهات صعبة، على الصحافة المصرية أن تتحمل مسئوليتها من أجل هذا التغيير.
* إنه تهديد مبطن من قوى المعارضة يكشف عن عدم رضاها بالمسيرة الحالية للحكومة المصرية والحاجة إلى مرحلة أكثر شفافية لكشف الفساد سواء المالي أو الإداري أو الأخلاقي الذي يكاد يعوم فيه كل نظام عربي مع فارق النسب، وقد آن أن تلعب الصحافة المصرية والمثقف المصري دورا في تحمل مسئولية التصحيح.
مع تغيير النقابة الصحافية في مصر والانقلاب الكبير الذي جعل المعارضة تكسب الرهان وبهذه القوة وبهذا الحماس فإن المتغيرات ستكون كثيرة وستحدث من خلال الصحافة على مسارات مختلفة وخصوصا لو تعاون المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي تم إعلانه أخيرا لو كان جادا، مع الصحافة إلا إذا كان هذا المجلس لعبة من الحكومة المصرية نفسها التي حاولت به أن تسبق السيطرة الشعبية عليه.
إن كل المؤشرات تؤكد أن الصحافة المصرية ستدخل مرحلة تاريخية جديدة مع سيطرة المعارضة على هذه النقابة المهمة في حياة الشعب المصري.
إن التفوق العددي في الانتخابات وبهذا الكم يعني أن كل أشكال المعارضة من إسلاميين وعلمانيين واليسار واليمين معا وجدوا أن السبيل الوحيد إلى التغيير هو ترك الخلاف التقليدي والاتفاق معا فلعبوها لأول مرة (صح) ـ كما يقولون ـ فنجحوا.
والحكومات العربية التي تثق بمثقفيها وبواجهاتها الفكرية وخصوصا الصحافة ومؤسسات الثقافة والفن يجب ألا تضيق عليها الخناق، ويكشف قانون المطبوعات البحريني الجديد والقاسي هذا الإحساس لدى الصحافة.
إن الحال العامة وهاجس الخوف والأمن حين يكون مسيطرا على الحكومة يكشف الإحساس بعدم الثقة بمواطنيها، وقانون الصحافة الذي ضج منه الصحافيون والكتاب في البحرين واعتبروه جائرا جاء ذلك هو الآخر ليكشف رفض الصحافي البحريني أن يعيش حالة تهديد وخوف مستمرة من قبل السلطة تحت شعار الحفاظ على القانون والمصالح الوطنية، فهذا مردود والسبب أن المواطن المثقف وخصوصا العامل في مجال الصحافة أكثر حرصا على الحفاظ على المصالح العليا للوطن من غير ردع أو تعليمات فوقية أو من خلال قانون المطبوعات الذي يراد تكبيله به، فالمثقف إن لم يكن أمينا على مصالح الوطن العليا ما استحق هذا المثقف أن يحمل شرف المواطنة، ومن يضر بمصالح الوطن العليا كهز اقتصاده من خلال نشر ما يورط أسواق البلد ويهز كيانه هو خائن لوطنه ولا يحتاج إلى قانون مطبوعات يكبله ليعلمه سواء السبيل إطلاقا.
ولهذا رفض الصحافيون البحرينيون قانون المطبوعات الجديد الذي يتفق معظمهم على أنه امتداد لقانون المطبوعات أيام قانون أمن الدولة.
وقد أكد رئيس الوزراء صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان أن المواطن البحريني جدير بالثقة حين قال «إن المكانة العالية للمواطن البحريني وإثباته لقدراته في مختلف المجالات العملية تعد محط أنظار الأمم» وهذا تأكيد من سموه لجدارة المواطن البحريني والحق في الثقة به وهذا ما يدفع العاملين في الصحافة إلى أن يطالبوا بتحريرهم من قيود قانون المطبوعات ماداموا جديرين بهذه الثقة.
وحين أكد سموه أن الحكومة تملك الشجاعة لتغيير أي قانون ـ وكان يقصد سموه قانون المطبوعات الجديد الذي أثار ضجة في الأوساط الثقافية ـ كان محقا جدا في هذا التعبير غير أن وجود شجاعة التغيير لا يكفي وحده للتغيير بل يحتاج ذلك إلى آلية أخرى هي الرغبة في التغيير والرغبة هي الأخرى بحاجة إلى آلية الحسم واتخاذ القرار للتغيير من دون أي تأجيل، لأنه مادامت القيادة السياسية لديها الشجاعة والرغبة والقدرة على الحسم فإن أي تأجيل أو تأخير وترك الموضوع المثير للضجة يواصل طريق إثارة الجدل من دون وضع حد له وحسمه فإن ذلك يكشف عن خلل في واحدة من هذه الآليات، وما ننشده من رئيس الوزراء هو التغيير.
وإذا كانت نقابة الصحافيين المصريين استطاعت فرض التغيير فهل تحتاج جمعية الصحافيين البحرينيين إلى جهود أعضاء نقابة الصحافة المصرية لكسبها رهان التحدي وخصوصا أن العملية متشابهة؟ فكما كانت هيمنة السلطة على النقابة استمرت عشرين سنة في مصر من خلال تولي مرشح السلطة على النقابة طوال تلك الأعوام حتى حدث هذا الانقلاب، فالبحرين هي الأخرى بحاجة إلى جمعية قوية للصحافة تخدم مصالح العاملين فيها في ظل حكومته، تثق بأبنائها ومثقفيها، وتترك الساحة مفتوحة للتسابق الحرّ
العدد 336 - الخميس 07 أغسطس 2003م الموافق 09 جمادى الآخرة 1424هـ