يبدو أن الخريطة السياسية في البحرين بكل مكوناتها وواجهاتها وأطيافها لم تستوعب استيعابا كاملا طبيعة الحراك السياسي في ظل تدافع الآراء ووجهات النظر المتباينة، ولم تستوعب إلى الآن أن تكون هناك تعددية سياسية قائمة على مبدأ السلم الأهلي، والخيار السلمي في الدفع بالخيارات والمواقف السياسية. والأدهى من ذلك، أن الانفتاح السياسي بعد مضي ثلاث سنوات عليه، ومشاركة الجميع في تعزيزه بوصفه خيارا وطنيّا، مازال البعض يجعله حكرا على فئة دون الأخرى، ويتعاطى مع الأطراف المختلفة معه بالعقلية القديمة نفسها، إذ مازالت «النميمة السياسية» متفشية بدرجة كبيرة في الوسط السياسي والإعلامي خصوصا، ومازلنا نسمع أصواتا تتكلم عن «المخربين في حوادث التسعينات»، وعن أشخاص «لم يتجاوزوا عقلية الماضي»، لماذا؟ لمجرد الاختلاف في الرأي لا أكثر ولا أقل.
لذلك يمكن القول: إن الفارق القيمي في النظر إلى القضايا السياسية والوطنية مازال كبيرا إن لم يكن متباعدا ومتنافرا، وللإنصاف، فهذه مشكلة كبيرة تتجاوز الاختلافات الطبيعية بين الأطراف المتعارضة بكثير، لتدخل في دائرة النوايا والمضمرات المسبقة، التي لم يشفع للقوى السياسية عندها الكثير من النوايا الحسنة، والكثير من التسامح السياسي، والكثير من الرغبة في تجاوز الماضي، لأن التجاوز معناه التجاوز بكل ما في الكلمة من دلالات تاريخية وسياسية.
ويمكن فهم القضية بصورة أعمق، إذا ما التفتنا إلى مسألة جوهرية في فهم حقيقة التدافع السياسي الجاري، وهي أن الخطاب السياسي السابق لفترة الانفتاح السياسي على مستوى بعض الأقلام والتوجهات السياسية تحديدا، خطاب مرحَّلٌ بكل مكوناته ومضامينه وإسقاطاته إلى المرحلة الحالية بكل فسحتها ورحابتها وأفقها المفتوح على الآخر. ولم يتجاوز هذا الخطاب واقع كون هؤلاء «مخربين» إلى دائرة أقل ضيقا، وهي أنهم «لم يتجاوزوا عقلية الماضي» بعد أن شهد الواقع لهؤلاء حضورا سياسيّا، يختلف عن الصورة التي تم رسمها في المخيال العام عن الحركة المطلبية في كل أبعادها، ومازال وقع كلمة أحد الرموز يرن في آذان الكثيرين من أبناء هذا الشعب، حينما قال إبان فترة «المبادرة» بكل وضوح للناس: «سأمنع خروج المظاهرات، وفي وجهة نظري أن الخيار السلمي هو الأقدر على الحل».
لذلك، يجب فهم مسألة دقيقة بكل وضوح وشفافية وصراحة، إذ لا يجوز التهاون في إيصال هذه الرسالة إلى الجميع، وأولهم من يفكر في العبث بأمن هذا الوطن أيّا كان هذا الإنسان، وبكل وضوح نقولها: مجنون من يراهن على الإضرار بالسلم الأهلي والوطني، إذ لا توجد أية قوى سياسية، راديكالية كانت أو معتدلة، تحمل هذا التوجه، لا على المستوى القريب، ولا على المستوى البعيد، كما أنها طبعا ليست موجودة في السلطة، لأن حجم التجاوز السياسي للكثير من العقبات شكّل منحنى لا يمكن معه اللي ولا الكسر، وهذا تجاوز يحسد عليه شعب وحكومة البحرين، في ظل حركة اقتتال عالمية تأكل الأخضر واليابس.
لكن، ليس المقابل لهذا الطرح، عدم وجود حراك سياسي متعارض وحاد في بعض الأحيان وفق قواعد اللعبة السياسية السلمية، فليس هناك حاجز - على ما يبدو - لتشكيل أدوار أخرى غير الأدوار الرسمية تحت مظلة وفضاء هذا الوطن المفتوح لكل أبنائه، ولو كلفنا أنفسنا فهم حقيقة بديهية لا تحتاج إلى فهم أساسا، وهي أن الفوارق في اللون واللسان والتفكير والاستيعاب وفهم الأدوار ولعبها صفة أساسية قائم عليها التمايز بين أبناء البشر، لأدركنا أن من يسوق الناس سوقا باتجاه لون واحد من التفكير، ولون واحد من الأدوار، هو مخطئ.
قد لا نحتاج إلى كل هذا الوعظ ونحن في حضرة السياسة بكل ما فيها من حيل ومكر، إلا لنقول للمتعارضين شيئا من القيم يا ناس، فالعالم الخانق من حولنا يكاد يطبق علينا، ونحن مازلنا نفكر في ارتقاء هذا الدور وارتقاء هذا المنصب، ونحرم الآخرين من أدوارهم ومواقعهم الحقيقية التي صنعوها بأريحيتهم وقربهم من الناس. والله إن الملل والضجر يعتري الإنسان، حينما يرى الفوارق بين بني البشر تتحول إلى غول أدوار، يلتهم كل شيء ويحتفظ بكل شيء لنفسه، ويرى المعايير القيمية مجزأة بهذه الطريقة من التوحش، حتى لم يعد المرء يفهم أنه وطني أو غير وطني، وهو أسهل دور يمكن أن يهتدي إليه الإنسان بفطرته (حب الوطن من الإيمان)، فبأي معيار يقيس الإنسان نفسه، وإلى أية وجهة يوجهها، ليرضي كل هذه المعايير المتوحشة في فهم الأدوار والمواقف والإنسان.
إذا خرجنا من هذا البرزخ، وأتينا لقراءة دور المعارضة والسلطة من جديد وفق محدد السلم الأهلي، فأي تصور يمكن لنا أن نخرج به من كل هذه المحطات الصعبة بين السلطة والمعارضة؟ أي تصور يمكن أن نخرج به من طرح ملف التجنيس والإشكالية الدستورية وغيرهما من الملفات العالقة بين السلطة والمعارضة؟ هل يمكن تصور شيء غير الاختلاف في دائرة الوطن؟ وهل توجد إشارات موضوعية غير هذه الإشارات، ممن يمتلك ناصية القرار السياسي من الطرفين؟ هل توجد أدوار أخرى غير الدور الوطني يمكن أن يلعبها كل طرف؟... بحسب التصور الموضوعي والقراءة الصحيحة للساحة الوطنية، ومن دون حديث المزايدات، لا يوجد إطار يحتضن كل هذا الحراك السياسي الحاد والمتعارض غير الوطن. قد تكون المحطة الدستورية أصعب المحطات بين السلطة والمعارضة، لأنها لم تخرج بتوافق عليها من الطرفين، إلا أن المعارضة لم تحوِّل عدم التوافق إلى حرف للخيارات الاستراتيجية للوطن، ولم تَعدُلْ أبدا ولا تعادل بمبدأ السلم الأهلي مبدأ آخر، كما أن حسابات السلطة في الحفاظ على مكتسبات الحركة الإصلاحية والانفتاح لم تتبدل أيضا، إذن: ما المشكلة في الأدوار المتعارضة بين السلطة والمعارضة، مادام التوافق لم يحصل إلى الآن، ومادامت الخيارات الاستراتيجية للوطن، وأهمها وأغلاها السلم الأهلي، لم تمس ولن تمس بإذن الله؟
إن صورة المشهد السياسي في البحرين في حال التوافق المأمول بين السلطة والمعارضة، وحلحلة الكثير من الملفات، وتأمين مساحة من الثقة تعزز الحراك البيني، لن تتجاوز في أشد الحالات السياسية تعقيدا، كونها عراكا على «الهاتف الخلوي» - في لبنان مثلا بين الأطراف المتجاذبة هناك - ولن تتعداه إلى الدائرة الهرمية للوطن، لأن القبول بهرمية الوجودات السياسية أساس متفق عليه، ويتم التحرك من خلاله. وتجاوز المحطات الصعبة التي تتعلق بأقصى درجات الأمن السياسي للجميع، سيخفض سقف العمل السياسي تلقائيّا إلى الحالة التنموية والتطويرية للوطن، وسيكون العراك السياسي عليها موجودا أيضا، ولكن بعد تجاوزنا صراع الوجودات السياسية إلى صراع الحقوق والمكتسبات والتنمية.
لذلك، يجب تأكيد تجاوز غموض ملف التجنيس السياسي، وما يقال عن تجنيس خارج القانون، وخلق إطار وطني يستوعب إشكالات هذا الملف المعقدة وفق صيغ أكثر شمولية وقبول من الجميع، تكون قادرة على إغلاقه نهائيّا ليس من طرف واحد، وإنما من جميع الأطراف، وهذا يتطلب تجاوز الحساسية المفرطة من هذا الملف، وتجاوز المكتسبات الخاصة، ويجب تأكيد ضرورة وجود مجتمع سياسي ناهض بكل فئاته وأجنحته وطوائفه. وهنا يقع الدور على الرموز التاريخية لهذا البلد، والمواقع التي يتحرك منها الشارع البحريني بكل فئاته، أن تتحرك بمسئولية سياسية ناهضة غير وهمية ولا مموهة لخدمة مصالح الوطن وكل المواطنين بلا استثناء.
كما يجب تعزيز مفهوم الولاء للوطن على أساس تنوع الأدوار لا أحاديتها، لأننا إذا حددنا الأدوار وضيقناها، سنخرج الكثيرين من مظلة الوطن، لأنهم مختلفون معنا على كل حال، ولن نجبرهم على الاتفاق إذا كانت دواعي الاختلاف بالنسبة إليهم قائمة، وأولا وأخيرا: يجب إعادة النظر في كل المعايير القيمية التي تحكم الساحة السياسية والوطنية، وعدم الخلط فيها، بأي حال من الأحوال، خدمة لمعايير خاصة، أحادية كانت أو جمعية، ومنها مفهوما الولاء والمواطنة، ومنها أيضا مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، وذلك بعدم وضعهما تحت معيار المحاصصة أو غيره من المعايير، التي لا علاقة لها بإنسانية الإنسان ودوره في خدمة هذا الوطن. وختاما: فإن التدافع في ظل تنوع الأدوار، لن يكون على حساب الحقوق الأساسية لكل فرد من أبناء هذا الوطن، إذا كان بنيان العدل قائما بين الجميع
إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"العدد 336 - الخميس 07 أغسطس 2003م الموافق 09 جمادى الآخرة 1424هـ