قال الأستاذ في جامعة تل أبيب والمسئول عن جمعية «تعايش» العربية الإسرائيلية غادي الغازي في دراسة حصلت عليها «الوسط» ان أعمال بناء الجدار بدأت في أبريل/ نيسان 2000 لكن اعتراضات الفلسطينيين لم تفلح، في حينه، في لفت الانتباه الدولي إليه، وكان حزب العمال في أساس هذا الحاجز المفترض به منع الهجمات ضد المدنيين الإسرائيليين داخل الخط الأخضر (حدود 4 يونيو/حزيران 1967)، حتى أن اليمين القومي بدا معارضا للفكرة التي رأى فيها رسما للحدود المستقبلية بين «إسرائيل» وفلسطين.
وقال الغازي: لكن أحدا لم يكن يرى في حينه الفارق بين حدود تضبط المبادلات السلمية بين كيانين مستقلين من جهة، وجدار يحاصر المستعمَرين ويؤمن للمستعمر حرية تدخل مطلقة، فالسجون محاطة أيضا بسياج. في كل حال، لم يمنع السياج الذي يغلق منذ التسعينات قطاع غزة، الجيش الإسرائيلي من القيام بعملياته هناك وتقطيع غزة إلى معاقل صغيرة.
ويكفي حجم المشروع في حد ذاته للدلالة على أنه ليس مجرد سياج أمني، ففي الكثير من المواقع يتجاوز عرض الفاصل 60 أو 70 مترا مزودا بالأسلاك الشائكة، تليها الخنادق، فيما الجدار بعلو 8 أمتار مزود بدوره بنظام إنذار الكتروني وطريق ترابية وأخرى مزفتة ووراءها أسلاك شائكة من جديد، وصنفت المناطق الواقعة بين الجدار والخط الأخضر «مناطق عسكرية مغلقة» كما أن هناك مناطق أخرى من الجانب الفلسطيني لا يمكن الوصول إليها إلا عبر نقاط التفتيش.
ويقر الباحث الاسرائيلي: إنه في المختصر مشروع ضخم، وبلغت كلفته باستثناء الجانب الشرقي 21 مليار يورو، ويمتد جانبه الشمالي الذي سينتهي العمل فيه في يوليو/ تموز 2003 على طول 150 كيلومترا، لكن في المجموع سيصل إلى 650 كيلومترا، وخلافا للادعاءات التي تقول إن العمل فيه يجري ببطء، فإن المشروع يتقدم بسرعة منذ عام إذ تعمل فيه 500 جرافة دفعة واحدة.
ويعود هذا الإيقاع إلى الغموض المحيط بالجدار إذ يعتقد غالبية الإسرائيليين أنه يتطابق إلى حد ما مع الخط الأخضر، فيما يقع عمليّا على مسافة 6 أو 7 كيلومترات إلى الشرق داخل الضفة الغربية، وفي يونيو/ حزيران 2002، كلفت الحكومة رئيسها ووزير الدفاع ترسيمه بدقة، لكن المستوطنين والجيش هم الذين حددوا ذلك في نهاية المطاف واكتفى شارون بإبداء اهتمامه المتكرر بالمشروع.
وبحسب الباحثين الإسرائيليين والفلسطينيين فإن 210 آلاف فلسطيني تضرروا حتى اليوم من الجدار. في فبراير/ شباط 2003 قدرت مصادر فلسطينية عدد الأشجار التي اقتلعت بثمانين ألفا، ما أطلق تجارة فعلية لشجر الزيتون الذي أعيد غرسه في فيلات الأغنياء الجدد من الإسرائيليين. حوالي 30 ألفا من المزارعين فقدوا وسائل عيشهم كون أرضهم تقع في الجانب الآخر من الجدار، ولم يفتح أي من الأبواب الـ 26 التي وعدت الحكومة الإسرائيلية بها لتمكين هؤلاء المزارعين من الذهاب إلى أراضيهم.
من الصعب تقدير المساحة الإضافية من الأراضي التي ستسيطر عليها «إسرائيل» بفضل الجدار، فالمرحلة الأولى كانت تطاول 3 في المئة من الضفة الغربية، لكن هذه النسبة التي ستزداد طبعا شيئا فشيئا، لا تأخذ في الاعتبار أهمية المنطقة بالنسبة إلى الاقتصاد الفلسطيني، فمناطق طولكرم وقلقيلية وجنين هي الأخصب على ضفة الأردن الغربية، وتمثل 40 في المئة من أراضيها الزراعية، وتشتمل على ثلثي الآبار فيها (28 منها باتت في الجهة الأخرى من الجدار)، ففيما يتجاوز ما ستعانيه المجتمعات الزراعية يمكن القول إن الضرر يطاول البنية التحتية للاقتصاد الفلسطيني
ويقول مرة أخرى، يجب التمييز بين أربعة عناصر:
- جدار الفصل الغربي المعروف، في هذه المرحلة الحاسمة من تشييده يستدير نحو الشرق ويشتمل على المستوطنات الكبيرة (وخصوصا أرئيل وعمانوئيل) قبل أن يخترق في العمق (حوالي 30 كيلومترا) داخل الضفة الغربية.
- في القدس ومحيطها يصار إلى تشييد مجموعة من الجدران تضم جزءا من بيت لحم وتطوق جميع الضواحي الفلسطينية، هكذا تنقطع بعض الأحياء العربية منها عن الضفة ومنها عن القدس، وغيرها تنقطع بعضها عن البعض.
- سيصار إلى تشييد جدار ثالث شرق الضفة الغربية قبل وادي الأردن، وعرف المشروع مع بداية مصادرة الأراضي الضرورية له، وسيعني في المدى المنظور ضم الجزء الشرقي من الضفة الغربية.
- البعد الرابع والأخير: تكاثر المعاقل الفلسطينية المغلقة التي انتهى العمل في البعض منها (حول قلقيلية) ويجري تشييد غيرها (حول طولكرم) فيما القسم الأخير وارد في المخططات، ففي قلقيلية تحيط الأسلاك الشائكة بحوالي أربعين ألفا من السكان الذين لا يستطيعون العبور إلى سائر أنحاء الضفة الغربية إلا من باب واحد.
قرى أخرى كثيرة مطوقة بالأسلوب ذاته، المعتقل الثاني يضم طولكرم وضواحيها (74 ألف نسمة)، ويلحظ المشروع نماذج أخرى إلى الشمال (حول رمان، 8 آلاف نسمة) وإلى الجنوب، حول كيفيا ورنتيس وبيت لاهيا وحول أريحا وربما حول الجزء الفلسطيني من الخليل.
إن النظر إلى مجمل عناصر المشروع يؤكد أن الجدار مشروع سياسي شامل، وهذا ما يقر به على سبيل المثال البروفيسور ارنون سوفر، خبير الديموغرافيا اليميني النزعة في جامعة حيفا، والذي يدعي أنه وراء جزء من المشروع، كما يقر ذلك أيضا الكثير من زعماء المستوطنين أمثال رئيس بلدية أرئيل رون نعمان. المقصود كسر مقاومة الضفة لتحويلها الى معاقل منفصلة تمارس عليها «إسرائيل» رقابة لصيقة وتمنع أي تواصل للمناطق في الدولة الإسرائيلية المستقبلية، حتى الدخول إلى المعاقل يكون تحت إشراف الإسرائيليين.
من الناحية الكمية يعني ذلك تنفيذ العرض من جانب واحد، الذي قدمه رئيس الوزراء الفلسطيني، أي إعطاؤهم 40 في المئة من الضفة، لكن مع فارق كبير هو أن هذا ليس الحل المؤقت، كما أشيع، بل الحل النهائي، ولا يمكن مقارنة نظام الجدران والمعاقل بحجمه هذا إلا بمشروع الاستيطان الواسع للضفة الذي أطلقته حكومة مناحيم بيغن العام 1978 بإدارة أرييل شارون.
المشروع الحاضر امتداد للسابق ويعبر في صيغته عن رؤية سياسية متماسكة لدى هذا الرجل الذي فضل على الدوام الأفعال على الكلام والرموز، ويعتقد هذا المزارع أرييل شارون أن مستقبل الصراع يتقرر على الأرض حيث الأهمية للناس والأرض والماء، والأفعال التي يخلقها اليوم قد لا يمكن الرجوع عنها في المستقبل. ويقع الجدار في بيئة زراعية وسيؤدي منع الفلسطينيين من الوصول إلى حقولهم وآبارهم إلى تعديل طويل المدى في البنى الاقتصادية وقطع العلاقة مع الأرض. إذا تم تنفيذ المشروع بأكمله فإن قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة لا يعود ممكنا، وهذا ما أراده شارون على الدوام، عندما كان وزيرا للمستوطنات العام 1977، كما عند تقديمه لمشروعه العام 1998 وعندما استعاد المشروع لمناسبة الانتخابات التشريعية في يناير/ كانون الثاني 2003. ما ينتظر الفلسطينيين من مصير بسبب الجدار: سجناء في بلدهم، مرتهنون لإرادة الاحتلال، محاطون بالأسلاك الشائكة ويحتاجون إلى إذن مرور عند أدنى تحرك يقومون به. تلك هي الصيغة المحلية لنظام التمييز العنصري: ألم يعلن شارون في الماضي تأييده لنظام البانتوستان (كما في جنوب إفريقيا سابقا؟) لكن الفارق كبير بين فلسطين وجنوب إفريقيا، فـ «إسرائيل» ليست في حاجة إلى يد عاملة محلية بعد أن دفعها إقفال الأراضي المحتلة إلى استيراد عمال مهاجرين من غير اليهود.
هكذا يلتحق الفلسطينيون بالمصير الحديث لملايين من الرجال والنساء لم يعد يطلب أحد استغلالهم في زمن العولمة، طبعا يمكنهم الرحيل، فالجدار من شأنه تسهيل «الترانسفير» لكن ليس وفق سيناريو دراماتيكي يجبر فيه المرء على مغادرة بيته، بل ضمن مسار تدريجي يهدد بحرمان المجتمع الفلسطيني من موارده البشرية وأمله في الاستقلال. حتى الآن لم يحصل أي تحرك جدي لوقف العمل بالجدار ولم تتمكن السلطة الوطنية الفلسطينية من جعله موضوع اهتمام رئيسيّا، ويعاني المناضلون المحليون صعوبة في تحريك المزارعين من أجل عمل جماعي يتجاوز محيطهم المباشر مادامت التجزئة السياسية والمناطقية هي السائدة. في منتصف يونيو 2003 وخلال قمة العقبة، طالبت الحكومتان الأميركية والبريطانية «إسرائيل» بوقف بناء الجدار نظرا إلى التعديلات التي أدخلت على ترسيمه، لكن رئيس الحكومة الإسرائيلي رفض الطلب ما خلّف أجواء من التوتر بين المسئولين الإسرائيليين، ومع ذلك فإن الـ 150 كيلومترا الأولى أنجزت من دون اعتراض دبلوماسي يذكر، وحتى بموافقة أميركية كما تقول بعض المصادر، فهل تسمح الضغوط الأميركية بوقف العمل في مشروع بهذا الحجم التاريخي؟ المطلوب إضافة إلى ذلك أن ينجح التحرك الفلسطيني الجماهيري في إظهار الجدار على أنه حل سياسي لا يمكن التعايش معه وغير قابل للحياة، هل يخلق هذا التحرك حركة تضامن في الخارج؟ هل يدرك الرأي العام الإسرائيلي أن الجدار يهدد مستقبل الشعبين؟
الجدران كانت دائما موجودة في تاريخ هذا النزاع الدامي، من رؤية ثيودور هرتزل للدولة اليهودية بوصفها عنصرا من عناصر «حاجز الدفاع ضد آسيا» إلى مشروع بن غوريون لخلق «جدار بشري» على طول حدود «إسرائيل»، مرورا بـ «الجدار الحديد» الذي دعا إليه زئيف جابوتنسكي في وجه العرب. لن تكون إذن المرة الأولى التي يستخدم فيها الخوف من أجل تبرير مشروع سياسي يستخدم الأمن على المدى القصير لخلق وضع خطير في المجال الطويل، كما لن تكون المرة الأولى التي يخلط فيها الإسرائيليون بين الأمن والحياة خلف الأسلاك الشائكة، فإذ يحتجزون أنفسهم خلف جدار، يطوقون من هم في مواجهتهم أي الفلسطينيين: هنالك مكان للجميع في هذا الغيتو العصري.
الجدار، في المحصلة، يطرح مستقبل الترانسفير وعذابات شعب فلسطين في مواجهة جدار من الخوف والرعب الصهيوني
العدد 334 - الثلثاء 05 أغسطس 2003م الموافق 07 جمادى الآخرة 1424هـ