العدد 333 - الإثنين 04 أغسطس 2003م الموافق 06 جمادى الآخرة 1424هـ

ومن التاريخ إذا أنذر

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

سينقسم المشاهدون العرب على ما بثته قناة «العربية» التلفزيونية الأسبوع الماضي، في لقاء مطول مع الابنة الكبرى للرئيس العراقي السابق رغد صدام حسين، إلى قسمين، سيقول البعض جميل أن نعرف الأخطاء التي ارتكبت في العراق وأسبابها، ونتعرف على خبايا أسرار الأسرة الحاكمة في بغداد لزمن ليس بالقصير.

وسيقول الطرف المعارض هل بثت المقابلة لتقول لنا إنه المخطئ في كل ما حصل للشعب العراقي وللمنطقة العربية من دمار وقتل وتشريد سببه نحن أبناء الشعب، الذين لا حول لنا ولا قوة، وليس الطاغية الذي ضحى بقلب بارد وأعصاب هادئة بمستقبل الملايين من الناس، بل وضع المنطقة بكل شعوبها في مهب الإعصار العاتي؟

في الحالتين سنجد مؤيدين ومعارضين، إلا أن قراءتي للموضوع ستختلف، ليس من باب صحة أو عدم صحة البث التلفزيوني ومبرراته الأخلاقية و المهنية إن وجدت، والطريقة التي تمت بها المقابلة.

ولكنها قراءة تحاول الدخول في عمق القضية الأكبر لتفسير لما حدث انطلاقا من نص المقابلة مستندا إلى بعض المعلومات التي قدمتها رغد إلى الجمهور العربي، الذي لا اشك في انه تابعها من كل مكان حين عرف بها، بل إن صحيفة يومية كبرى في لندن، هي «التايمز» أفردت للمقابلة صفحة أولى كاملة في صدر عدد السبت، وهو عدد يستقبله الجمهور البريطاني بحفاوة بسبب صدوره في نهاية الأسبوع.

لعل القراءة الأولى أن رغد تعتقد أنها وعائلتها الضحية، المجني عليهم المساكين، فوالدها محب وعطوف وعائلي. ترى من هم المجرمون إذن الذين تسببوا في الأنفال بقتل آلاف الأكراد بالغاز السام؟ من هم المذنبون في قتل الشيعة في الجنوب التي تتكشف مقابرهم الجماعية يوما بعد يوم؟ ومن هم الذين شردوا عشرات الآلاف من العراقيين خارج وطنهم، بل ومن هو الذي قتل الآمنين في مرقد الأئمة في المدن المقدسة، وضرب الأضرحة بالمدافع؟ إذا كان الرئيس المحب لعائلته لم يفعل ذلك، فبأمر من تم كل ذلك الهوس بالقتل؟!

من خلال المقابلة قالت رغد أن من حقها أن تتهم أولئك الفقراء القادمين من العوجة (مسقط رأس والدها وعائلتها) بأنهم اثروا ثراء فاحشا بسبب صدام حسين، إلا أنها تتحدث في الوقت نفسه عن (مزرعتها) التي اختفت فيها لفترة، ذات البيتين الكبيرين وحجرات (الفلح) الفلاحين، وبقية القصور والدور التي عاشت فيها، وكأنها تملكها منذ الأزل، وليس السبب في ثرائها هي وعائلتها هو اغتصاب السلطة والتفرد بالموارد العراقية الضخمة. بالتأكيد هي لا ترى في ذلك شيئا مخجلا، لقد تربت على ذلك في القصور.

أما الحديث عن (الحقد والحسد) الذي قالت رغد في المقابلة انه لو وزع على العالم لأصبح نصفه لأهل العوجة ونصفه الثاني للعالم اجمع، فيدل على الصراع الضخم الذي احتدم في (العائلة) الصدامية على السلطة والنفوذ والمال. هو صراع لا رحمة فيه، وهو الصراع الذي جعل من زوجها حسين كامل المجيد يفر أولا بها وأخيه صدام إلى الأردن، ومن ثم الطمع في السلطة والنفوذ الذي أعاده من جديد إلى حتفه كي يقتل.

فهل يعقل عاقل أن (المجيد الكيماوي) يستطيع من دون موافقة ضمنية من (الرئيس القائد) أن يحول عفو الرئيس عن حسين كامل الذي اتخذته المؤسسات الحاكمة إلى (غضب العشيرة) التي لا تسامح الخونة! وأين رأي وموقف المؤسسات الحاكمة في ذلك إن وجدت.

إن ما سمعناه من رغد صدام حسين يفوق في غرابته ما قرأنا عنه من مؤامرات القصور في العصور الوسطى الأوروبية، من حقد وعداوة وقتل وتصفيات.

كان القتل هو الحل الوحيد للمشكلات التي واجهتها جمهورية صدام حسين في العراق طوال السنوات الأربعين الماضية، «الرجل مشكلة والرجل الميت هو مشكلة ميتة»... هكذا كان يقول دكتاتور روسيا الكبير جوزف ستالين، ومن المفارقات التاريخية أن يصدر كتاب هذا الأسبوع يؤرخ (لملكية جوزف ستالين في جمهورية روسيا).

ما وصفته رغد من ممارسات العائلة والعشيرة هو (تصرف ملكي قرن أوسطي) من ذلك النوع الذي فرضه ستالين على شعوب الاتحاد السوفياتي السابق، وخلف ذلك الحكم كما خلف حكم صدام حسين المقابر الجماعية، والوضع المزري لشعوب كثيرة في جمهورية صدام حسين، وربما فاق الأخير الأول في تسلط الأقارب.

تقول رغد إن صدام حسين هو الشخص، هو القوى، وهو العاقل، هو الأنيق، هو المنزه، صاحب الخطوة العالية، وهو القوي العاقل المخلص، وهو في نهاية الأمر واضع السلام على الأرض... هل بقيت حسنات وسجايا في العالم بعد ذلك لتوزيعها على البشر. لا ليس ذلك هو ما تراه أمهات الضحايا بعشرات الآلاف، وليس هو الذي يراه آباء المفقودين في سجون المخابرات، أو في سجون الأبناء والأقارب، أو القتلى في المعارك العبثية التي خاضها نظام صدام هربا من مشكلة، ووقوعا في مشكلة أكبر.

إنما ما قالته رغد يدل على (عقلية) سادت العراق في تلك السنوات المظلمة، وهي عقلية، روجت لعكس ما كانت تدعي، فلم تبن الدولة، ولكنها عززت العشيرة. ولم تهتم بالمرأة بل وأدت النساء، ولم ترض تنشئة جيل، بل أفقرته وجهلته. لم يكن هم العشيرة أي نوع من التنمية غير تنمية الأموال الخاصة من خزينة الدولة التي أهدرت بشكل غير مسبوق تاريخيّا.

ما قالته رغد صدام حسين، وبكلماتها، يقود إلى تأكيد أن العراق كان في يد (عصابة) كما وصفها مرة الكاتب المعارض حسن العلوي. وهذه العصابة كان همها أولا حماية رئيسها من أي تغيير، ثم الاستحواذ على كل ما يمكن ملكه وحمله أو سلبه من المواطن والوطن، لا يختلف في ذلك المحمول من الأموال أو المودع من الأرواح. الآن وبعد كل ما اتضح من أفعال منكرة، هل يمكن القول إنه كانت في العراق دولة حديثة قادرة على مواجهة كل ما قيل لنا إنها ستواجهه؟ تقول رغد إنها رأت بأم عينيها الجنود العراقيين هاربين يتلفتون يمنة ويسارا! وهل توقعت أن أولئك الجنود المساكين سيقدمون أرواحهم للدفاع عن العصابة التي تملك كل شيء؟

الأوصاف التي قدمتها رغد للثلاثة الكبار في جمهورية صدام حسين (اخوته الثلاثة) غير الأشقاء، وكيف تتم مؤامراتهم بتهديد الرئيس بأنهم سيتركون عملهم إن لم يحقق هذا أو ذاك مطالبهم، تترك المراقب يتساءل: أين الدولة التي تحدثت عنها أدبيات الجمهورية؟ كان التهديد بأن يتخلى الأشقاء عن حماية الرئيس، ثم يترك لحاله.

قدمت إلينا رغد ربما من دون أن تدري درسا مهما للتاريخ الحديث، التاريخ الذي يؤكد أن مثل هذه الممارسات لن تنجو من الخلل والسقوط وإن بدا الزمن طويلا للبعض أو بعيدا عن النكبة للبعض الآخر. قالت: نحن كنا هناك وقبلنا آخرون وبعدنا آخرون سيأتون... إنها تتمثل صورة (عائلة حاكمة) وليس بنت رئيس جمهورية.

القول الحق إن تحرير العراق بمثل ما تم به من وسائل كان أرحم ألف مرة على الجميع من مصير عائلة الملك فيصل الذي حصد الرصاص كل أفرادها، لم يفرق بين صبي وسيدة مسنة، ومن يرد الاستزادة من القراء فعليه بمذكرات بديعة، الناجية الوحيدة من مأساة قصر الرحاب، والتاريخ لا يعيد نفسه، ولكنه يقدم إلينا الدروس، فهل من متعظ

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 333 - الإثنين 04 أغسطس 2003م الموافق 06 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً