يحكى ان غنيا استضاف فقيرا على مائدته، فلما انتهى من الأكل الدسم قدّم له الشاي، فلما ترشّفه قدّم له الفواكه ليحلّي، فلما انتهى من أكل البرتقال والبطيخ الأحمر طلب منه أن يصعّد خمسين كيسا من الأرز إلى الطابق الأعلى من البيت، فما كان منه إلا أن قال: «يا لقمة الشيخ من كبد الفقير اطلعي»!
رطل من لحم الفخذ!
من منكم لم يسمع باسم «شيلوك»؟ ذلك التاجر اليهودي الجشع الذي عاش على الربا حتى درجة الإدمان، فلما اضطر «أنطونيو» المسكين للاقتراض منه اشترط عليه ان يقتطع رطلا من اللحم من جسده. وهو الموضوع الذي اتخذه شاعر الانجليز الاكبر وليام شكسبير مادة لمسرحيته الشهيرة «تاجر البندقية». وعندما عجز انطونيو عن الوفاء بالدَيْن في موعده أصرّ شيلوك على اقتطاع رطل اللحم، فعُـقدت المحكمة ولم يكن هناك بدٌ من الوفاء. ويتركك شكسبير تعيش على أعصابك وأنت تتابع هذه النفسية المريضة التي تصر على شرطها المجحف بعيدا عن شيء اسمه «إنسانية» أو ضمير أو حقوق آخرين في الحياة.
في الختام يجد شكسبير العبقري حلا ينقذ به الضحية من براثن هذا الوحش، وذلك بمطالبته بأخذ رطل اللحم لكن من دون إراقة قطرة دم! ويسقط شيلوك في يده... وتنتهي المسرحية!
إذا تأمّلت الدوافع النفسية التي تحكم سلوك هذه الشخصية، لن تجدها تخرج عن إطار «عبادة المال»، هذا الداء المستفحل الذي أصاب البشرية من شروره الكثير، وسيصيبها بسببه الكثير الكثير، معاناة وفقرا وحاجة وانحلالا وتفسخا، وبالإجمال: «سحق إنسانية الإنسان». وكلما وجدت شرا وفسادا في الأرض فابحث عن السبب الأكبر: «حب المال».
«شيلوك» وصل!
مسرحية أخرى نتابعها منذ أشهر أمام إصرار أحد المصارف الوطنية الكبرى على فرض ضريبة على تبرعات المساهمين للصناديق الخيرية والجمعيات الإسلامية العاملة في البلد. فهناك إصرار غريب على اقتطاع 14 ألف دينار من الأرباح من لحوم الفقراء شهريا، عبر فرض ضريبة على الحسابات التي يتبرع بها المساهمون من اصحاب الأيدي الحانية على الفقراء، وغالبية هؤلاء المتبرعين من ذوي الدخل المحدود الذين يشعرون بمعنى الحاجة والفقر، ويدفعهم إلى التبرع بما تجود به أيديهم تلك العاطفة الإنسانية النبيلة والمبادئ التي تربّوا عليها من تكافل وتراحم، وعناية خاصة باليتامى والفقراء والمحتاجين، مما يجهلها الكثيرون من طبقة «المدراء». والمؤكد حتما ان فرض هذه الضريبة سينعكس سلبا على موارد هذه المؤسسات التي تعمل مشكورة على سدّ جزءٍ من النواقص وحمل جزء من العبء عن الحكومة في رفع حاجة المحتاجين والمحرومين من أبناء البلد.
الغريب أنه في الوقت الذي ذهبت اللجنة التي تمثل الجمعيات الإسلامية والصناديق الخيرية لمقابلة وزير العمل الأسبوع الماضي للبحث عن حلٍ لهذا المأزق الذي وجدت نفسها فيه، والذي يهدّدها بانخفاض إيراداتها بمقدار 80 في المئة، كان المصرف المبادر لتطبيق هذه السُّنة غير الحسنة قد ابتدأ في فرض الضريبة على المتبرعين منذ شهرين، بينما بعث بإشعار لهذه المؤسسات بفرض الضريبة ابتداء من شهر سبتمبر/ايلول المقبل! على الأقل كان أنطونيو يعرف موعد الذبح، فلماذا تُستغفل مؤسساتنا الخيرية بهذه الصورة المهينة؟ ومن المسئول عن مثل هذا القرار المجحف الذي سيضعضع موازنة أكثر من ستين صندوقا خيريا ومؤسسة إسلامية عاملة في الساحة؟ وهل أخذ في الإعتبار آثاره السلبية على آلاف الأسر التي تقتات على هذه المبالغ التي ترفع عنها جزءا من المعاناة والحاجة والعوز؟ هل هي سياسة لجني مزيد من الأرباح ولو على حساب الفقراء والمحتاجين؟ هل كل ما يفكر به «المدراء» هو حصيلة استقطاع الدينار على 14 ألف عملية تحويل للصناديق شهريا ليزيد ربح البنك 168 ألفا سنويا؟ وإذا كان المصرف يتبرع بـ 80 ألف دينار سنويا لهذه المؤسسات فيمكنكم أن تحسبوا ببساطة صافي الأرباح التي ستضاف في ميزانية النصف الثاني من هذا العام على حساب لحوم الفقراء! طبعا لا أحد ينكر ما كان يتبرع به المصرف المذكور من مبالغ سابقا لهذه المؤسسات، ولكن لن يشفع له ذلك باتخاذ هذه السياسة التي سيدفع ثمنها فقراء البلد. فما أبعد الإنسانية عن سياسة ترفيع أكياس الأرز إلى الطابق الثاني بعد تناول الوجبة الدسمة والبطيخ الاحمر
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 333 - الإثنين 04 أغسطس 2003م الموافق 06 جمادى الآخرة 1424هـ