العدد 333 - الإثنين 04 أغسطس 2003م الموافق 06 جمادى الآخرة 1424هـ

ليست الخيانة وحدها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تصريحات رغد (الابنة الكبرى للرئيس العراقي) لفضائية «العربية» عن «الغدر» بوالدها من جانب مقربين منه تثير مجددا تلك الأسئلة الغامضة عن سقوط بغداد. الا أن الغموض يجب ألا يطغى على الحقيقة وهي ان بغداد سقطت لأسباب لها صلة بموازين القوى بين دولة كبرى تملك من القدرات لم تتوافر لأي دولة اخرى في العالم وبين دولة اقليمية محاصرة منذ 13 سنة وتعاني من مشكلات اقتصادية وبنيوية إلى نظام قهر شعبه طوال أكثر من ثلاثة عقود. فكثرة الكلام عن «الخيانة» ودور الخونة في إسقاط بغداد تغطي الكثير من السلوك السياسي الذي اتبعه النظام وتبرر أيضا تجاوزاته التي أسهمت في التعجيل بسقوط عاصمة الرافدين السريع. وتكرار الكلام عن غدر أولاد عم صدام وخيانة أقرب المقربين يجدد طرح السؤال عن الجهة (أو الشخص) المسئولة عن ترقية تلك المجموعة من العناصر وجعلها تحتل مواقع حساسة من دون دراية علمية وخبرة عملية وتدريب على تحمل أثقال المهمات حين تطرأ صعوبات غير متوقعة. الغدر حصل. وحصل أيضا من أقرب الناس للرئيس صدام. هذا أمر لا خلاف عليه. الخلاف هو على من تقع مسئولية جلب هؤلاء «الخونة» وتسليمهم أعلى مناصب الدولة. فالنظام كما هو متعارف عليه قام على تنظيم أواصر العائلة. والعائلية لعبت دورها في نهوض دولة صدام معتمدة على روابط اولاد العشيرة وابناء الأسر المقربة من اسرة الرئيس. فالقائد الأوحد المخلوع هو المسئول عن تأسيس نظام علاقات يعتمد في روابطه الداخلية على علاقات ضيقة لا تستوعب «الغرباء» من مناطق وعشائر وطوائف أخرى. وهذا التصرف يخالف في جوهره مفهوم بناء دولة عصرية تقوم على سلسلة تحالفات حديثة لا تلغي العلاقات القديمة بل تحاول قدر الإمكان الاستفادة منها لإعادة انتاج سلطة متوازنة تتمتع بقاعدة اجتماعية (شعبية) تتجاوز الحلقات الاسرية الضيقة.

الدولة عادة تطمح دائما إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية وتخطط لتثبيت قوتها وضمان استمراريتها اعتمادا على شبكة واسعة من العلاقات تعطيها حيوية ومرونة وتضخ لأجهزتها الادارية الكثير من الخبراء اضافة الى ولاءات قديمة تحسن من وظائفها وتحميها من الأعداء والمؤامرات الداخلية.

دولة صدام قامت على عكس نهوض الدول الطبيعية. فهو منذ تولى الحكم إثر انقلاب 1968 وتوليه منصب نائب الرئيس ثم الرئيس بدأ بتقطيع أواصر علاقات الدولة التقليدية وتقليص قاعدتها الاجتماعية وإبعاد كل المخالفين لرأي الحزب من السلطة، ثم إبعاد كل المعارضين لرأيه وتقريب كل من له صلة شخصية به سواء من خلال الولاءات العصبية او الولاءات «الانتهازية» و«الوصولية» حتى لو كان الأشخاص لا يتمتعون بالعلم والكفاءة او الشجاعة او احترام الناس وعاداتهم.

كثير من اصحاب الخبرة والعلم والتجارب السابقة ابتعدوا او استبعدوا من مركز القرار... لأن صاحب القرار مال الى كل من يوافقه وارتاب من كل من كان يتمتع بقليل من الاحترام لذاته وقناعاته. وبسبب سياسة الولاءات الشخصية وتفضيل المنافقين استمرت دائرة الدولة في التقلص وضاقت إلى درجة انها اقتصرت في عقدها الاخير على مجموعة من «المصفقين» وحفنة من الاقرباء لا تعرف كيف تدير دولة وتقود أجهزة. فالدولة في عهود صدام وخصوصا في سنواتها الاخيرة تخلت عن الكثير من وظائفها الاجتماعية والتقليدية وتحولت الى منابر لإدارة التنفيعات وشراء الولاءات بالتراضي او عن طريق القوة. مثل هذه الدولة حكمت على نفسها من البداية بالاعدام. فهي كما ظهرت في اللحظات الصعبة دولة هزيلة لا تقوى على الصمود حين تأتي لحظة المواجهة الحقيقية مع دولة كبرى تملك قدرات ومؤهلات ليست موجودة لا في دولة صدام ولا في دول اخرى حتى تلك الموجودة في الاتحاد الاوروبي.

واجهت دولة الرئيس القوة الاميركية من دون غطاء داخلي. والمجتمع الذي حذف من معادلة البناء لا يمكن ان ينخرط وفي سرعة البرق في معادلة الصراع. والشارع السياسي الذي استبيح على مدار سنوات لا يستطيع في دورته الأخيرة النهوض مجددا للمقاومة والدفاع عن أجهزة عاث فيها «الاقرباء» فسادا. سقوط بغداد السريع كان مفاجأة. إلا ان الكلام عن الخيانة (وغدر الأقرباء) بأنها السبب الوحيد لذاك السقوط المريع هو مبالغة للتغطية على حقيقة تاريخية صنعها صدام بنفسه ودفع ثمنها في اللحظة التي احتاج فيها إلى «الناس» للدفاع عنه وعن نظام القرابة والأقرباء

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 333 - الإثنين 04 أغسطس 2003م الموافق 06 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً