العدد 332 - الأحد 03 أغسطس 2003م الموافق 05 جمادى الآخرة 1424هـ

نقاط في واقع العراق واحتمالاته

هاني فحص comments [at] alwasatnews.com

عضو في المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى في بيروت

نميل إلى شيء من التفاؤل الحذر جدا، على أساس أن الكارثة حادثة والنهوض احتمال ممكن ولكن معقد.

وما حدث في العراق حتى الآن يشجعنا على التفاؤل المحدود والحذر الشديد معا أو يخفف من التشاؤم الشديد الذي قد يفضي إلى اليأس. مثلا:

1- أربعون الحسين في كربلاء (مليونا شخص) تمت من دون أي حادث يذكر ما يعني أن المجتمع الأهلي على رغم كل الأعطاب في جملته العصبية قادر على تحقيق السلام الداخلي. ووجود المرجعية بين الناس كان له أثر محمود.

2- على عكس ما حدث في انتفاضة 1991 لم تحدث اندفاعة تصفوية ضد أعضاء حزب البعث من قبل الأهالي، لأنهم تعلموا من الماضي، وكانت المرجعية الدينية في فتاواها الرادعة ذات فعالية ملحوظة وقد ركزت على الإحتكام إلى القانون من خلال القضاء مع دعوة صريحة إلى التسامح والنسيان.

3- إصرار المجتمع على المقاومة المدنية أو الممانعة مع تفرقة أو فصل مسلكي بين مواجهة تصرفات التحالف الحمقاء التي تتجاوز نظام القيم بالاستنكار والتظاهر والقوة أحيانا، وبين الشأن السياسي الذي تسوده حال اعتراض على المصادرة الأميركية للقرار الشعبي. وتأتي مواقف المرجعية الدينية المصرة على العملية الديمقراطية والانتخاب في كل المؤسسات المنوي تشكيلها ارتقاء بهذه الممانعة إلى مستوى المقاومة السياسية الفعلية التي لا مانع يمنع من تطورها إلى مقاومة شاملة إذا ما بقي المسعى الأميركي مرصودا بالمماطلة من ناحية والتسرع القائم على قلة فهم لحال العراق والعراقيين من ناحية أخرى.

4- هناك شبه اتفاق بين الأقوام والأديان والمذاهب والأحزاب السياسية على قبول التعدد والحوار وعدم الدخول في أي لون من ألوان الصراع من دون نفي للاختلاف. وهناك اتفاق بينها على الوحدة الوطنية. غاية الأمر أن الاستقطاب التاريخي للأكراد هو لجهة ترسيخ الحكم الذاتي من خلال الاتحاد الفيدرالي من دون الإلحاح على الدولة الكردية الممنوعة لأسباب معروفة. كما أن استقطاب الآخرين جميعا تقريبا هو لجهة الوحدة ما يعني أن المحتمل هو حال فيدرالية ثنائية بين الأكراد وبقية مكونات الشعب العراقي كمناخ لإعادة تأهيل الجميع إلى الإنخراط في دولة واحدة بعد أن يقتنع الأكراد من خلال الديمقراطية والعد النسبي بعدم ضرورة الإصرار على الإنفصال، والميل إلى الوحدة التامة.

وهنا تلعب المرجعيات الدينية السنية والشيعية دورا متقدما من خلال إلحاحها على الوحدة والتمنع عن تحويل المتغيرات المحتملة في أنصبة الدولة إلى التعبير عن غلبة أو تغلب لطرف على طرف (الشيعة على السنة تحديدا). من هنا تحدث الشيعة ومنهم أولئك الموصولون بالسياق الإيراني عن نفي رغبتهم في دولة إسلامية على النموذج الإيراني، مقتنعين بأنها لن تكون إلا شيعية المذهب ما يعطي للسنة الحق في طرح دولتهم أو كيانهم السني (العربي) وهذا يعني تقسيم العراق، وتحول الوجود الشيعي إلى وصلة إيرانية تشكل خطرا إضافيا على الخليج وتطاول حدود بلاد الشام وتكون إعلانا عن نهاية العراق وطنا ودولة، في حين أن هناك حال وطنية عراقية موروثة من جهة ومتأثرة في عمقها وتوترها من جهة أخرى بالتجربة مع إيران (سلبية) وبالتجربة مع الدول العربية التي أهملت الشعب العراقي على مدى ثلث قرن من الطغيان والاضطهاد. إلى ذلك فإن نهج النجف الفقهي لا يتلاءم مع ولاية الفقيه.

5- تلاحظ درجة من البطء في الحراك على أرض العراق وفي أوساط قواه المتصدية للتعامل مع الأوضاع وعلى كل المستويات، تدخل في أسبابه جهالة الأميركي وغموض نواياه والارتباك الشديد في التعامل مع الحال الشعبية الصعبة، كما تدخل في أسبابه حال الشعب الذي قسمه النظام إلى قسمين عشرون مليونا ونيف مغتربون في الوطن لا يفكرون إلا بالتفاصيل من يومياتهم وسلامة أبدانهم وأرواحهم (الرهاب الشمولي) ما يعني أنهم بحاجة إلى إعادة تأهيل. بينما المهجرون (أربعة ملايين) قد ابتعدوا كثيرا واكتسبوا خبرات مفيدة ولكنها مثقلة بآليات سلوك مختلفة، ما يعني أنهم بحاجة إلى إعادة دمج... ومن أسبابه أن الأحزاب السياسية المهجرة قد فقدت قواعدها في الداخل بالقتل، وفي الخارج بالموت والترهل وتعطيل البناء والتجديد والإنشقاق والإنكفاء والإنسحاب واستقطابات الحياة والغياب الذي أدى إلى أن ينساها الداخل وتنسى هذا الداخل، ما يعني أنها بحاجة إلى مضاعفة نشاطها وتبديل خطابها ورؤيتها وأنماط علاقاتها بالداخل لتصبح مصدر حيوية سياسية.

6- هناك خراب في كل شيء من البنية التحتية إلى العمران إلى الإدارة إلى التربية إلى العلائق الاجتماعية إلى البيئة، لا ينهض بها اقتصاد عراقي عاجز ومسيطر عليه تماما وتواجهه عوائق كبرى على طريق العافية... هنا يحسن أن يكون لدينا عرب وأوروبيون ما يشبه مشروع مارشال إلى ألمانيا بصفته التنموية من دون أن يكون له الغاية والآلية السياسية نفسها... وهنا تتحقق المشاركة الحقيقية مع أوروبا وتحقق لها صدقيتها في مستقبل العرب الذي سيكون محكوما بضرورة الشراكة وتعطيل مصادر الحساسية.

7- لابد من ملاحظة الأعطاب عميقة الغور في الكيان العراقي... مثلا... ركز النظام لحماية نفسه من الاعتراض الواعي، على استقطاب رجال العشائر من خلال إغرائهم بالمكاسب المحرمة مقابل إسهامهم في تشويه بنية الاجتماع العراقي (يتعرض للسجن من لا يحمل شجرة نسب من شيخ العشيرة يحصل عليها مقابل مبلغ معين ويودعها في مقر مديرية شئون القبائل بقيادة اللواء روكان مكفنة بمبلغ كبير من المال يدفعها للمؤسسة)، من هنا تركزت حال عشائرية شديدة التركيز أدت إلى استشراس المستفيدين من هذا الواقع... وأدت فيما أدت إلى عودة النسق القبلي في حياة الأسرة فتراجع وضع المرأة وتفاقم غيابها عن الحياة العامة... هذا أمر لابد من العناية به، ولكن مع الحذر من العقلية التحديثية التي تقدم النموذج الغربي بشكل مثير، أي أولوية التطوير من الداخل وبروية وأناة... مع عناية موازية بمسألة الطفولة المشوهة بالرعب واليتم والجوع والتعليم الفاشي والأمراض المستوطنة... لابد من تأسيس أمكنة لفرح الطفولة... وخصوصا أن آلاف الأسر تعاني من آثار التعذيب والقتل ويندر أن تكون عائلة خالية من حال اكتئاب شديد أو زهايمر أو بارانويا أو رهاب أو فصام أو جنون دائم أو أدواري، وهذا أمر يتماشى يوميا مع البنية الذهنية والنفسية للأسرة جميعها وللصغار منها بشكل خاص وأشد خطورة.

ملاحظة: (لابد من أن نشير إلى استشراد واشتداد العنف الأسري والزوجي «الذكوري»).

8- عطل النظام تقاليد أهلية في الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي (الحرفي) واجتث القواعد التي كانت تقوم عليها دورة الإنتاج المساعد (تجفيف الأهوار 10 آلاف كم2 وتشتيت سكانها... إبادة 4200 قرية كردية وتهجير اهلها إلى الجنوب والوسط... منع القادمين إلى بغداد من الجنوب والوسط قبل العام 1958 مع فروعهم من البقاء فيها بإعادتهم إلى الريف غير قادرين على المشاركة في انتاجه والاندماج في حياته). ما يعني ان هناك حاجة شديدة لتنشيط آليات التنمية الذاتية. (مسألة الأهوار تصبح مأساة تصغر أمامها مسألة الزعزعة التي اصابت الحضارة النوبية في اسوان بسبب السد العالي).

9- هناك سؤال عن المقاومة... ان المقاومة احتمال إشكالي من دون شك.

أما ما يحصل الآن فهو الهزات الارتدادية للزالزال الكبير ولا يجمعه عنوان واحد.

ففي الفلوجة والرمادي حيث كان البعثيون فيها هم عناصر الامن التي تعتقل وتقتل بأوامر الضباط التكارتة (ضباط الجيش الكبار حصة الموصل اولا والعشائر ثانيا) يقاتل المهددون بالمحكمة معتمدين على المال المودع لديهم من قبل النظام، ويقاتل ابناء العشائر التي استفادت من الصدام العراقي بين النظام والعشائر الكبرى (الدليم).

ويشارك في القتال المتفرق في كل المناطق على هدوء ملحوظ في الشمال وفي الموصل خصوصا... فضلا عن الفرات الاوسط والجنوب يشارك المئة الف محترف جريمة اطلق سراحهم النظام قبيل الحرب من دون اية ضمانة أو تأهيل أو امكان حياة. ومعهم الجائعون والطامعون الجدد والذي حطم القمع الطويل نظام القيم في داخلهم... ويقاتل في الجنوب والشمال والوسط اناس تعودوا على اقتناء السلاح باعتباره حاجة عضوية بسبب تخلف الدولة (لا يستبعد ان تكون هناك حاليا حالات مقاومة عفوية في حركتها وهادفة من دون التباسات كما حدث في بداية الاحتلال لجنوب لبنان) حماية لمقتنياتهم من السرقة واجسادهم من الثأر العشائري، وترسيخا لقيمهم التي يمكن نقدها دائما وتطويرها دائما، ولكن الاجتراء عليها بنية سيئة أو جهالة، يستثير الحمية التي لا يبالي عندها من تنتهك حرمة منزله وحريمه، بأي خطر... وقتل حتى لو كان ذلك ينتهي بقتله. إذا فنحن امام مشهد فوضى مسلحة او عنف عشوائي وعفوي الى حد بعيد... اما العنف المنظم فما زال غائبا ويفكر العقلاء الممانعون المستعدون للمقاومة مستقبلا، بأن المقاومة لن تجدي الا اذا كانت من ضمن مشروع يتضمنها ولا يقتصر عليها، اي في الاجتماع والسياسة والادارة والاقتصاد وانظمة العلائق... وهذا ليس نهجا شيعيا أو سنيا، بل هو نهج عراقي وطني تدخل الفتوى الشرعية في آليات إنتاجه من دون ان تختزله ومن دون ان تكون المرجعية جاهزة للمغامرة بتركيب المقاومة على الفتوى حذرا من المثال الغامض، مع بقائها على استعداد لتركيب الفتوى على المقاومة الرشيدة في اللحظة المناسبة من دون تسرع او مقامرة ببلد اصاب فيه الاهتراء كل شيء حتى ليبدو لناظره كيانا من البؤس تتلاقى فيه الامراض والاعطاب والظواهر السلبية الخطرة لتكون حالا من الوباء المستشري العضال والذي يحتاج الشفاء منه أو علاجه الى اناة ومنهجية تطلق في كراهية المرض لا المريض، اي اننا مدعوون جميعا لتفهم الصعاب والمصاب العراقي في مظاهره الارتدادية من اجل التفاهم مع العراقيين على مستقبل سليم وغير محكوم بالمشهد الجارح والمحبط وبالذاكرة الحاشدة بالفجائع... إننا امام حال يتوحد فيها الاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلائق على نصاب اشكالي لابد من معالجته معالجة مركبة تمر بإعادة التأهيل في كل المستويات مع بقاء الوحدة الوطنية ضرورة مسلما بها لدى الجميع وخصوصا المرجعية والمضطرة إلى التواصل مع تراثها التوحيدي الوحدوي

إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"

العدد 332 - الأحد 03 أغسطس 2003م الموافق 05 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً