قد يكون الجانب التنظيمي من أهم المشكلات التي تواجهها الجمعيات السياسية ذات الثقل الجماهيري تحديدا، وتضغط بشكل كبير على توجهاتها السياسية، وقدرتها على تحريك برامجها وملفاتها على أرض الواقع، وبالنظر إلى واقع المعارضة في كل بلدان العالم، فليس من الصحيح إلقاء اللوم على قرار معين بأنه السبب وراء جمود الحركة السياسية، فإذا ما تصور المقاطعون أنفسهم بأنهم خسروا مقاعد انتخابية ولم يتخذوا قرار المقاطعة، فهل معنى ذلك أن دورهم كوجود مؤسسي ممتد لقواعد شعبية واسعة قد انتهى، وأنهم غير قادرين على بلورة ملفات على غرار ما تفعله الحكومة والبرلمان.
إذا كان هذا الكلام دقيقا، فمن المفترض أن يحزم جميع المهزومين هذا إذا ما دخل الجميع اللعبة بإرادة مشتركة أن يحزموا حقائبهم ويرحلوا من الحياة السياسية، ليتم تشكيل اللعبة السياسية بالوجوه والأسماء المنتصرة نفسها، فهل يقبل العقل هذا المنطق؟ القبول بهذا المنطق يعني إلغاء قانون التدافع بصفته سنة إلهية جارية، تتبدل الأوضاع والأحوال والأسماء من خلالها، ومن يحاول فرض هذا المنطق رسميا كان أو معارضا، فهو جاهل بمنطق التاريخ والحاضر والمستقبل، وقد يودي بمستقبل الحركة السياسية إلى الجمود والانهيار.
قد تكون الدعوة إلى المشاركة في فرضياتها نفسها التي ترى المشارك قادرا على الحضور السياسي في الساحة الوطنية على خلاف المقاطع، إسقاط أساسي على المقاطع حينما ينوي المشاركة مستقبلا، بمعنى أن المقاطع قادر على التحرك وبلورة الملفات استعدادا لاستحقاق معين، ويبقى منشأ الخلاف هو الدخول من عدمه، وليس القدرة على التحرك من عدمها، وبالتالي فتحديد الخيار السياسي سواء كنت خارج اللعبة بإرادة أو بغير إرادة أو كنت داخلها، نابع من القدرة على تنظيم الخيارات بحسب أدوات الواقع المشروعة وليس شيئا آخر، وافتراض الحال القهرية في الخروج من لعبة معينة كافتراض الهزيمة في الانتخابات البرلمانية، يكفي ليبحث الإنسان عن نمط إبداعي تزاحمي وتدافعي في إثبات وجوده، فكيف إذا كان الإنسان قد خرج من اللعبة، لأنه يرى عدم قدرته على اللعب من خلالها.
إذن... ترجيح أي طرف لقرار الخروج من لعبة ما بإرادته، يعطي المحيط الخارجي تلقائيا بكل مكوناته وأدواته السياسية الأولوية في العمل، ولا يجوز القول له: إنك لا تستطيع القدرة على اللعب من الخارج، فهناك جمعيات أخرى قبلت الدخول في لعبة الانتخابات النيابية، ومازالت متشبثة بهذا الخيار، ولكنها خسرت وأصبحت خارج اللعبة وخارج البرلمان، فهل نقول لها: إن دورك في الحياة السياسية قد انتهى، إذا كان الجواب بالنفي، فلم الحساسية من أطراف بعينها لأنها ارتضت اللعب خارج اللعبة، أما إذا كان الجواب بالإيجاب، فالجمعيات التي شاركت أولى بأن تحزم حقائبها، من الجمعيات التي مازالت متشبثة بالواقع، وترى أن بإمكانها لعب دور معين وهي خارج اللعبة بإرادتها.
نقطة أخرى قد تكون جزءا من عدم قراءة الواقع بصورة صحيحة، وعدم فهم أدوات اللعبة السياسية، وهي إبعاد الكادر البشري بمختلف توجهاته واهتماماته وتخصصاته عن دائرة القرار، وحكره على فئة رمزية كانت أو نخبوية، شاءت الأقدار أن تتصدر في يوم من الأيام، لتشيِّئ لنفسها أن تكون في الصدارة دائما، فبين الشعبوية واستثمار الطاقات بون شاسع يخلط الكثيرون فيهما، وهو في الدائرة القصدية عند بعض الأطراف، عمل مخطط ومدروس لاحتكار الساحة وإغلاقها على فئة بعينها من دون الفئات الأخرى.
إلى جانب ذلك، يساهم شعور بعض الأطراف بالتهميش، وتكرارهم لهذه العبارة بشكل مستمر، لجعل الفضاء الخارجي المليء بمكونات وأدوات العمل والحراك السياسي المفتوح عناصر ضغط غير مبررة لمن يملك ثقلا جماهيريا متكيفا من الناحية التاريخية والسياسية مع قراراته وخياراته، وقادرا أن يحولها إلى حال ديناميكية حرة ومفتوحة ضمن الإطار الشرعي المتمثل بالخيار السلمي، إلى ساحة مليئة بالتدافع الإيجابي لتحقيق واقع أفضل إلى الناس، وربما كان السبب في عدم نشوء هذه الحال هو عدم وضوح الرؤية باتجاه الخيار المطلوب للساحة، والجانب الأخطر في ذلك، عدم وحدة الخطاب السياسي للمشتغلين بالعمل السياسي، ما يجعل الأدوات السياسية أشبه بالرجل المشلول، الفاقد القدرة على التركيز، والفاقد الإرادة على الحراك بهذا الاتجاه أو ذاك.
إذن... بين إشكالية غياب الدور وإشكالية غياب الكوادر، قد يكون البعد التنظيمي هو المغيب بشيء من القصدية نتيجة الخلط في قراءة المفاهيم وقراءة الواقع السياسي، وقراءة ومعادلات القوى وكيفية إدارتها، ما يدعونا إلى إعطاء البعد التنظيمي حقه الذي يستحقه، ومعايشة العمل السياسي اليومي الشائك، الذي يكون فيه مبدأ تكافؤ الفرص، وعدم المحسوبية في تقديم وتأخير الكفاءات حاضرا بقوة، أثناء إعادة تشكيلنا لهياكل مؤسساتنا الحيوية، لأن إخفاقنا في تحقيق هذا المبدأ، سيضع علامة استفهام كبيرة بشأن طلبنا المتكرر بتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص على مستوى المؤسسات الرسمية، وهذا يتطلب منا إيجاد نظام محاسبة واختيار، لاختيار الأشخاص الكفوئين، وإبعاد من لم تثبت كفاءتهم عند توليهم المسئوليات في مؤسساتنا الحيوية.
إذا جئنا لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية، فأول ما يتبادر إلى الذهن بخصوص هذه الجمعية، هو حجم التركة الثقيلة والمنهكة من الأعباء والمسئوليات، بعد تعرض كوادرها وقواعدها إلى التضرر الكبير جراء الحوادث التي شهدتها فترة التسعينات، وهذا ما يجعل الحاجة إلى التأهيل السياسي لكوادرها وقواعدها في دائرته الإنسانية أولا والتنظيمية ثانيا أمرا ملحا وكبيرا، ويجعل الحاجة إلى إعادة ترتيب الحال الهرمية والمؤسساتية المنتجة بما فيها المؤسسات الخدمية والنفعية الخاصة بتيار الوفاق أمرا مهما أيضا، وربما تبدو الحاجة عند البعض لالتقاط الأنفاس من جديد، وعدم البحث عن بؤر توتر ومناطق اصطدام مع السلطة، ما يجعل خيار المشاركة في الانتخابات النيابية مطروحا عند هؤلاء بقوة، لخلق مصالحة مع السلطة تعتمد النفس الطويل والإعداد المستمر للكوادر، كما تؤسس لقاعدة ثقة مفقودة من خلال التعاطي البيني الهادئ وغير المتشنج، حتى لو كان ذلك بتقديم بعض التنازلات السياسية، وتخفيض الإيقاع الحركي والميداني وحتى المطلبي لتيار «الوفاق» تحديدا.
هذا الطرح إذا ما تصورنا انسيابه بسلالة مع متغيرات الشأن السياسي، والإيقاع غير المتوازن بين المعارضة والحكومة، فإن فيه على مستوى الهم الوطني بما هو وطني انحيازا طائفيا، لمصلحة طائفة بعينها، على حساب الهموم المشتركة والحيوية التي أسس لها التيار الإسلامي في حركته المطلبية في فترة التسعينات، وتغليب هذا البعد على الأبعاد الأخرى، يجعل من الصعوبة لهذا التيار النهوض بالمهمات الوطنية ذات النطاق المشترك الأوسع، لأنه سيرث بالطبع تركة ثقيلة من الوضع الداخلي غير المنتظم ككيان سياسي ذو أبعاد أحادية الهم والتحرك.
إلا أن الوفاق اتخذت خيار المقاطعة، ولم تلتقط أنفاسها وفق التصور المطروح، وإنما بقت تؤسس للنضال السلمي وبالأدوات السلمية كما دعا إلى ذلك رموزها في فترة التسعينات إبان الحركة المطلبية، واستمرت على الشعار القديم نفسه، وهو المطالبة بدستور 73، الذي اعتبره البعض غير ممكن، وغير مناسب لهذه المرحلة.
قد لا تكون لنا حاجة بهذه القصة كلها، بالقدر الذي نحتاج فيه إلى وعي الظروف الجديدة للعمل السياسي، وأهم هذه الظروف وجود المؤسسة، عوضا عن وجود الرمز والمجموعة أيا كان هذا الرمز وأيا كانت هذه المجموعة، وعوضا وهذا هو الأهم عن العمل السري، والفكر الأمني من الطرفين الرسمي والشعبي في إدارة الساحة، فأهم منجز في هذا الجانب، أن السلطة لا تستطيع اعتقال المؤسسة بحسب الفهم المجازي الأمني - لأن ذلك قد يؤدي إلى تخريب البنية التنظيمية في المجتمع السياسي الناشئ، ويلجأ الكثير من الأطراف إلى اللجوء إلى الحال الأولى وهي الحال الأمنية، إلا أنها كانت قبل ذلك تستطيع اعتقال الرمز المتغلغل في الجذور الشعبية، ما يؤدي إلى إفساد الحراك الشعبي في بعده الرمزي، وإفساد الحال العاقلة التوجيهية التي يمارسها الرمز، فتضعف القدرة على إيجاد إيقاع منضبط للحال السياسية، وتَصعدُ الحال الأمنية إلى أعلى مستوياتها من دون أن يكون للرمز دور يذكر في خلخلة هذا الإيقاع السياسي، إذ كان منتظما أثناء وجوده في الساحة.
لقد انتقل الوضع بعد الفوضى الأمنية في فترة التسعينات إلى الفوضى التنظيمية مع وجود المؤسسة للأسف، ولم تسعف الحال السياسية المنهكة رجالاتها في فهم هذه النقلة بالصورة النوعية التي تستحقها في تحريك الساحة والملفات، وتحريك الشرعية السياسية المعارضة إلى دائرة الضوء والعلن، بعد أن كانت محاصرة بالفكر الأمني في إطارها الرمزي المحدود واللا شرعي حسب وجهة النظر الرسمية السائدة آنذاك، لأن الساحة لم تستطع استيعاب الحال الرمزية والمؤسسية معا، خصوصا مع تباين الخطابات وتباين المرجعيات السياسية الحاكمة للعمل السياسي والتوجهات السياسية، وضاعف من حدة عدم استيعاب الدورين معا تباين الخطوط السياسية التي حاولت أن تنصهر شكليا في مركب العمل المؤسساتي المفكك، لكنها لم تستطع نسيان فوارقها ومصالحها وقواعدها على الأرض.
ربما يكون الفارق القاتل لكل الوجود السياسي الحالي، وكل أطيافه المتحركة في الساحة: أن الساحة في ظل الإيقاع الأمني الحاد والمتربص خلال فترة التسعينات - كانت تسير بتشكُّلٍ قيادي بسيط غير مركب، لكنه الأكثر امتدادا وقدرة على صناعة الواقع، وكانت تسير بديناميكية عفوية أفضل بكثير من ديناميكية العمل المؤسساتي الحالي، لأن ثنائية الرمز والمؤسسة لم تحل إلى الآن، وربما لأن الحالة الهرمية لم تتشكل بعد، أو أن الاستعداد القيادي لقيادة الساحة لم يحسم بعد، وربما لأن الكثيرين لديهم الرغبة لقيادة الواقع من دون واقع يطلبهم للقيادة، وربما لأن النسيج السياسي الجديد وغير المتجانس لم يهضم المرجعيات كافة، ويبلورها إلى بناء جديد للعمل السياسي.
وجود مثل هذه العقبات في أي بناء هرمي أو مؤسسي قد يضاعف من تبعات أي قرار يتخذه أصحابه، ويجعل منه في حد ذاته مهمة شاقة عليهم، حتى لو كان سهلا يسيرا وصائبا، وهذا يدفعنا إلى القول: إن خطأ القرار في ظل وحدة الموقف تجاهه قد يوجد له منفذا للتحقيق، وصحة القرار مع تفرق أصحابه عنه قد يوصلهم إلى مجاهيل لا يعلمها إلا الله، وعليه: فإن الحاجة إلى سلامة البناء الهرمي، وعدم ضياع المكاسب الحيوية، تقتضي بالدرجة الأولى أن تكون المراجعة لأي قرار يتخذ، ليس على أساس «هدم البنيان من القواعد»، وإنما على أساس النظر العرضي فالطولي إلى استقامة البنيان، لكي نكون قادرين على فحصه من جهة، ثم التمتع بجماليته حتى لو كان صغيرا وغير مكتمل، فذلك يوقف فينا الإحساس بضرورة الهدم المستمر لعدم الرضا عن البنيان بما هو صغير وناقص ومشروخ في بعض الأحيان.
وفي «الوفاق» تحديدا، توجد حاجة ملحة لاستيعاب أمر مهم يتجاوز طبيعة البديهة المزعومة في فهم الدور المؤسساتي، إلى حال النفاذ الفوري إلى فكر القائمين على هذه المؤسسة، من خلال تأكيد قدرة «الوفاق» على أرض الواقع، ومن دون التنظير إلى ذلك كثيرا، على إيجاد حال مستوعبة للرمزية وغيرها من الحلقات الداخلة في الوفاق، من غير الحاجة إلى الفصل القهري بينهما، لتوصلنا إلى نتيجة أهم من الأولى، وهي أن الحال الرمزية بدأت تستوعب العمل المؤسساتي، ما يجعل ذيول الحال الرمزية تستوعب هي الأخرى هذه الفكرة وتنصهر فيها بناء وعملا وتنظيما، فعدم استيعابها من قبل الرموز والقواعد، والمراهقة في فهم الأدوار من جديد، قد يقودنا إلى الفوضى التنظيمية والأمنية تباعا، ليكون التربص بالمؤسسة أمرا سهلا، في ظل عدم التحقق من كون المؤسسة موجودة أصلا، وتحقق وجود أشخاص متفرقين داخل المؤسسة، يُسهِّل عزلهم عن أدوارهم الجمعية، ليسهل ضربهم متفرقين.
لذلك ينبغي النظر إلى عدة فضاءات، لمن يعمل على إعادة ترتيب الوضع الهرمي والتنظيمي للوفاق:
أولا: تفكيك كل دوائر القرار الملتبسة داخل الوفاق بما فيها الحال الرمزية، وإعادة هيكلتها من جديد على أساس من التوافق في الخطاب السياسي، والتوافق في الحركة الميدانية، وتوازع الأدوار، وفقا للقابليات الحقيقية للقبول بالدور والالتزام به إلى نهاية الخط.
ثانيا: إعادة الاعتبار إلى الجمعية العمومية في الوفاق بصفتها منبع السياسات والتوجهات العامة للجمعية، لا على أساس الذيلية والتبعية والنفوذ، وإنما على أساس فتح المناخ السياسي داخل الجمعية لتفريغ الأفكار والآراء في قوالب تنظيمية، تلتزم التوعية السياسية أولا، ثم الديمقراطية ثانيا، لتحقيق المصالح المشتركة من دون الإخلال بالمصالح الخاصة والطموح المشروع لأعضائها، وعدم حكر ذلك على فئة بعينها.
ثالثا: إعادة تركيب دوائر القرار وآليات العمل، بصورة متناسقة مع برامج الجمعية، بحيث لا تتخطاها ولا تقصرها، مع ترك مساحة للإبداع الميداني والتنظيري المستقبلي، على مستوى البرامج والملفات، مع ضرورة الالتفات إلى إعداد كوادر ميدانية حركية، وأخرى قيادية توجيهية من العناصر الشابة الموجودة في الجمعية، وهذا يتطلب جرأة من الرموز التاريخية على تقديم الكوادر الشابة، كما يتطلب إيجاد نظام محاسبة يمنع استغلال الموقع في توجيه حركة المصالح والأهداف بما لا يخدم واقع الجمعية.
هذه ثلاثة عناصر مهيئة للواقع المؤسساتي، ويمكن بناء المساحات التفصيلية للحال الهرمية والتنظيمية وفق احتياجات الجمعية الراهنة والمستقبلية، وربما يكون هذا الاهتمام بدور الوفاق، نابع من كون هذه المؤسسة تحمل تركة من النضال السياسي الذي خدم هذا الوطن، ولا يجوز لهذا الدور أن ينحرف عن مساره الوطني بأي حال من الأحوال
العدد 331 - السبت 02 أغسطس 2003م الموافق 04 جمادى الآخرة 1424هـ