تشير تقارير سياسية واستراتيجية حصلت «الوسط» على نسخ منها ونشرت في العاصمة الاردنية عمّان، إلى ان نتائج الحرب الاميركية - البريطانية «الخاطفة» على العراق دفعت المؤسسة العسكرية الروسية بصقورها وحمائمها الى اعادة نظر شاملة في الاستراتيجية الدفاعية الروسية والتوجه نحو صنع جيل جديد من الاسلحة يضمن حدّا معقولا من «توازن الرعب» الذي كان سائدا حقبة «الحرب الباردة» بين العملاقين النوويين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق. وأعلن الرئيس فلاديمير بوتين امام البرلمان ان روسيا تتجه نحو انتاج سلاح يؤمن القدرة الدفاعية لها «ولحلفائها على المدى الطويل». وجاءت تصريحات بوتين على خلفية استطلاع اظهر ان غالبية العسكريين لا يولون خدمة العلم اهتماما كبيرا. وعلق خبير سياسي على نتيجة الاستطلاع الذي تسربت تفاصيله الى بعض الصحف بالقول: «لو كانت حالة العراقيين المعنوية كهذه لدخلت قوات التحالف بغداد في اليوم الثالث للحرب».
ومنذ انطلاق العمليات العسكرية في الخليج، تقول مصادر صحيفة «الرأي» الاردنية التي كشفت عن فحوى التقرير، تعرض الرئيس بوتين لضغوط شديدة من قبل دعاة تقوية روسيا. وطالب غالبية النواب بزيادة الانفاق العسكري ورصد اعتمادات اضافية لانعاش نظام الدفاع المضاد للصواريخ، وكانت القيادة الروسية اعلنت بعد انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الحد من الصواريخ المضادة للصواريخ (اي بي أم) عن عودة صواريخ (سي - 18) الى الخدمة، وتطوير صواريخ (توبول) متعددة الرؤوس النووية.
ويبدو ان موسكو وبانتهاء الحرب على العراق، تتأهب لإشهار قدرتها العسكرية، فعدا عن تلويح بوتين في خطابه السنوي لجيل جديد من الاسلحة، اعلنت وزارة الدفاع ان مناورات (غير مسبوقة) وفقا لتصريح ناطق عسكري، اجريت نهاية يوليو/تموز الماضي.
وبحسب المعلومات الرسمية فإن المناورات تتضمن قيام الطائرات والغواصات الروسية بإطلاق صواريخ ذات رؤوس مدمرة نووية وهمية على منشآت عسكرية في الولايات المتحدة وبريطانيا والبحث عن وحدات بحرية اميركية بما فيها حاملات الطائرات وتدميرها.
وتتضمن خطة المناورة تطور نزاع اقليمي واستفحاله الى حرب، ما يستدعي تعطيل الاقمار الاصطناعية الاميركية ونظام الملاحة الالكترونية وأقمار التجسس لعرقلة استخدام اسلحة دقيقة التصويب ضد الطائرات الروسية.
وبحسب اقوال قائد جيش سلاح الجو السابع والثلاثين الجنرال ايغور خفوروف، تهدف المناورات الى اجراء تمارين للتنسيق بين القاذفات الاستراتيجية من طراز (تو 95 و22) والقوات النووية الاستراتيجية مع القوات البحرية وانواع القوات المسلحة الرئيسية والفرعية الاخرى في غرب وشرق وشمال وجنوب روسيا.
في الوقت نفسه - يقول الجنرال خفوروف - ستطلق غواصات تابعة لاسطولي الشمال والمحيط الهادئ صواريخ بالستية حقيقية.
وستشارك في التدريبات ايضا الوحدات البحرية الروسية التي وصلت بحر العرب لإجراء مناورات مشتركة مع القوات البحرية الهندية. ووفق خطة المناورات فإن هذه الوحدات ستتمرن على البحث عن غواصات اميركية من طراز (لوس انجليس) وتدميرها وضرب وحدات بحرية معادية بالصواريخ.
يذكر ان وحدات بحرية روسية توجهت الى المنطقة بعد انطلاق العمليات العسكرية في العراق ببضعة ايام، وقيل في رواية رسمية ان المهمة الرئيسية لهذه الوحدات تتمثل في رصد العمليات العسكرية وتقويمها من ناحية تأثيرها على دول المنطقة.
ووفقا للخبراء العسكريين فإن الاسلحة التي استخدمتها الولايات المتحدة في حربها على العراق تنتمي الى الجيل الخامس، ما يستدعي من روسيا اللحاق بالركب بعد اعوام من التوقف عن تطوير الاسلحة الهجومية الاستراتيجية والمراقبة الالكترونية.
ويذكر الخبراء ان الاتحاد السوفياتي السابق بدأ بإقامة منشأة هائلة قرب مدينة (نوريلت) جنوب جمهورية طاجكستان مطلع الثمانينات. وأعربت الولايات المتحدة عن القلق بعد ان رصدت أقمارها الاصطناعية عمليات لتجريب سلاح ليزر هائل، واضطرت حكومة الاتحاد السوفياتي إلى تقديم توضيحات بأن المحطة مخصصة للمراقبة الالكترونية فقط.
ويشير الخبراء الى مرصد نوريك الذي اطلق عليه اسم (النافذة)، إذ يستطيع رصد الاقمار الاصطناعية على ارتفاع اربعين ألف كيلومتر وتحديد مسارها وهويتها والاغراض التي تستخدم من اجلها. وتوقف العمل في هذه (العين الثاقبة) التي تستطيع ايضا رصد مختلف الاجرام السماوية. وأدت الحرب الاهلية في طاجكستان عقب انفراط عقد الاتحاد السوفياتي الى تعليق العمل في بناء المرصد إلا ان موسكو قررت استئناف بنائه العام 1996 ودخل المرصد الخدمة في نوفمبر/تشرين الثاني 1999.
يشار الى ان اول تمرين عملي على مدفع ليزر اجري في الاتحاد السوفياتي السابق في اكتوبر/تشرين الاول 1984 عندما حلق مكوك (تشيلينجر) فوق الاراضي السوفياتية على ارتفاع 365 كيلومترا، فتعطلت اتصالاته فجأة وانتابت الملاحين الاميركان وعكة صحية ملاحية. وأظهرت التحريات التي اجراها البنتاغون ان المكوك الفضائي تعرض لنوع من الهجوم بأسلحة غريبة، وقدمت واشنطن احتجاجا شديد اللهجة إلى موسكو التي اعترفت بعد مرور خمسة أعوام بأن المركب الفضائي الاميركي تأثر فعلا بأشعة مدفع ليزر سوفياتي بدأ المهندسون بصنعه في سبعينات القرن الماضي وأطلقوا عليه اسم (تيرا - 3).
وعقب انتهاء «الحرب الباردة» العام 1989 والدفء الذي دب في مفاصل العلاقات السوفياتية - الاميركية في عهد ميخائيل غورباتشوف، عرض الروس على وفد اميركي زار موسكو، المدفع في اطار ما يمكن وصفه الكشف عن اسرار الماضي ولإفهام الاميركان بأن روسيا قادرة على مجاراة التطورة الهائل في التقنيات العسكرية الحديثة (لولا ضيق ذات اليد).
ويعترف رئيس اركان الجيش الروسي الجنرال اناتولي كفاشنين بأن الاسلحة المتطورة التي تملكها الولايات المتحدة وبريطانيا امنت التفوق النوعي لقواتها التي حاربت العراق. وبدا واضحا منذ الساعات الاولى لانطلاق العمليات العسكرية ان (النتيجة محسومة). وقال: «ان الدرس الابرز الذي يمكن استخلاصه من حرب العراق، الإسراع بتجهيز الجيش الروسي بالسلاح والعتاد الحديث، وزيادة الاعتمادات المالية لهذا الغرض»، وهو ما اكده بوتين في خطابه السنوي الذي دغدغ مشاعر دعاة (القوة العظمى) الحديثة عن تطوير (جيل جديد) من الاسلحة الاستراتيجية.
وفي وثيقة «تقرير سري للغاية» عسكري، يرى رئيس مركز التحليلات الاستراتيجية الروسي ان الحرب الباردة لم تقبر خلافا «لأوهام الكثيرين من دعاة الشراكة غير المشروطة مع الولايات المتحدة». ويقول البروفيسور الكسي كيفا، المعروف بميوله الليبرالية، ان الصداقة التي نشأت بين قيادة روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وقادة الغرب «لم تضع نهاية للحرب الباردة على رغم كل الحديث المفعم بالحماس عن الشراكة». ويشير الى ان الولايات المتحدة ستظل تنظر الى روسيا على انها (تابع) وبغض النظر عن تأكيدات الكرملين بأن روسيا لاتزال تملك قدرات نووية ضخمة تجيز لها «الاحتفاظ بموقع متميز في حلبة الاقوياء».
ويقول كيفا: «واشنطن مهووسة بتوفير الأمن لها ولحلفائها وبسط السيطرة على العالم»، مشيرا الى ان الهدف الأبعد لواشنطن مقاومة تحوّل الصين الى دولة عظمى ونزع اسلحة روسيا النووية والحؤول دون اقامة تحالف بين موسكو وبكين واخراج روسيا من الساحة السوفياتية السابقة ومنع قيام تحالف دولي يقاوم الهيمنة الاميركية. ويشير الى ان قوات حلف شمال الاطلسي وصلت الى مواقع استراتيجية مهمة في خريطة مصالح الولايات المتحدة على الساحة السوفياتية السابقة.
ويرى فريق واسع من المحللين المستقلين ان طريق روسيا نحو الاندماج مع اوروبا، طريق وعرة، لأن بلدان الغرب قطعت شوطا كبيرا على طريق الرفاهية خلال القرن العشرين متقدمة على روسيا، ولا تجد بلدان اوروبا لها مصلحة في توسيع عضوية النادي الخاص بعالم الغرب وقبول الدب الروسي منزوع الانياب النووية حتى في النادي هذا.
فالاتحاد الاوروبي الذي ازال الحواجز على الحدود بين دوله، اقام سياجا منيعا على حدوده يتمثل في نظام الدخول بتأشيرة اوروبية، وبالتالي فإن المواطنين الروس الذين يرغبون في السفر حتى الى بلدان اوروبا الشرقية، لن يتمكنوا من دخولها من دون التأشيرة الاوروبية، وبعد ان تنضم ليتوانيا وبولندا الى الاتحاد الاوروبي نهاية العام المقبل سيقام مثل هذا السياج حول منطقة كالينينغراد الروسية وعندها سيضطر الروس الى تقديم طلب الحصول على التأشيرة الاوروبية لكي يصلوا الى هذه المنطقة التي ستغدو جيبا معزولا بين روسيا من جهة، وبولندا وليتوانيا من جهة اخرى.
ويرفض الاوروبيون الاقتراح الروسي بإنشاء ممر يربط كالينينغراد باتحاد روسيا، لأن ذلك يذكرهم بما كان يسمى في فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى بـ (ممر وانزيغ) الذي كان يربط بولندا ببحر البلطيق، وطالب هتلر بإعادة هذا الممر الى المانيا، ثم اشعل الحرب العالمية الثانية لأن دول اوروبا رفضت طلب المانيا النازية.
وتمثل مشكلة كالينينغراد امتحانا عسيرا يواجه الشراكة الروسية - الاوروبية التي تحدث عنها الرئيس بوتين باعتبارها ثاني اولويات سياسة الكرملين الخارجية.
ويرفض الاوروبيون الى الآن اسقاط جزء من ديون روسيا الخارجية للدولة المانحة (نادي باريس) وللمصارف والمؤسسات المالية الدولية (نادي لندن)، أما المساعدة المالية التي قررت مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى منحها لروسيا في الفترة الاخيرة وتتراوح التقديرات بين 15 و20 مليارا فإنها منحة تهدف الى نزع اسلحة روسيا النووية ومنع تسربها الى «البلدان المارقة».
واقع الحال ان الغرب لن يقدم إلى روسيا هذه المبالغ، بل اعلن انه سيسقطها من الدين الروسي الاجمالي الخارجي البالغ زهاء 153 مليار دولار. ومعنى ذلك ان روسيا لن تتسلم اموالا سائلة، بل يتعين عليها تخصيص هذه المبالغ لضبط الأمن النووي جراء اتلاف ترسانتها، في حين تستمر فوائد الديون بالزيادة سنويّا، والحاصل ان الفوائد المتراكمة تأكل «الهبة» الغربية بمعدل أسرع من اتلاف وتدمير المفاعلات الخاصة بالغواصات النووية التي سحبت من الخدمة ويتآكلها الصدأ في الموانئ الشمالية الروسية وتهدد وفق رأي الخبراء بكوارث لا تقل رعبا عن كارثة تشيرنوبل اواسط الثمانينات.
ويعترف معظم المحللين الروس، بمن فيهم ذوو النزعة الليبرالية، بأن العالم لم يتغير نحو الأفضل، وان جميع المشكلات والتناقضات تظل قائمة، وان التنافس الى حد الصراع يسود عالم يسعى الاميركيون إلى إحكام قبضتهم على مناطقه الحيوية، الامر الذي يرغم روسيا على خوض جولة جديدة من سباق التسلح، ربما ستعجز عن مجاراة التفوق الاميركي، إلا ان متطلبات الأمن القومي والدفاع عن المصالح يفرض على الكرملين تطوير أصناف جديدة من الاسلحة الاستراتيجية
العدد 331 - السبت 02 أغسطس 2003م الموافق 04 جمادى الآخرة 1424هـ