بعد اجتياح جيش صدام الكويت في 2 اغسطس/ آب 1990 لم يدرك النظام العراقي الآثار السلبية لفعلته، واستمر يعتمد سياسة الهروب إلى الأمام ظنا منه أن الخروج من القلعة هو افضل وسيلة للدفاع عنها.
إلى ذلك اعتقد النظام ان الفوز هو دائما من نصيب من يحقق المفاجأة أو الضربة الاولى، وان من يسبق في تسديدها يكسب الجولات كلها.
اعتمد صدام نظريات عسكرية قديمة لحماية دولته. فالخروج من القلعة للدفاع عنها سادت اوروبا في العصور الوسطى في فترة ممالك الفرسان (الدولة - المدينة)، وانتهت تلك الاستراتيجية حين تطورت الدولة من المدينة إلى الأمة وارتقت معها ادوات القتال. فالحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تعد تقتصر على الجبهات. والرد العسكري الحديث الذي يعتمد التفوق الجوي والصاروخي والسرعة في حسم المواجهات بات يتركز على مركز القرار والضرب عليه حتى يصاب بالشلل فتنهار الجبهات تلقائيا من دون حاجة إلى معارك خنادق كما كان الامر عليه في الحروب التقليدية.
لم يلحظ صدام أن الرد الاميركي سيكون على القلعة مباشرة وليس على جنودها، وان المعركة المقبلة ليست بين طرفين متعادلين في قوتهما العسكرية حتى يكون المنتصر فيها من يسبق في تسديد الضربة الاولى.
إلى الجانب العسكري لم يدرك صدام خطورة خطوته ومدلولاتها الاقتصادية وعدم استعداد الدول الكبرى وتحديدا اميركا وبريطانيا لتقبل فكرة سيطرة بغداد على 40 في المئة من احتياطي النفط العالمي واحتمال تحكم دولة واحدة يحكمها رجل واحد في تقرير اسعار النفط واللعب بسوق الانتاج والاستهلاك.
إلى العسكر والاقتصاد غاب عن صدام الجانب السياسي لخطوته. فالعراق كان بدأ منذ فترة توقف حربه على ايران يواجه صعوبات في علاقاته الاقليمية وأسهمت الضغوط الدولية في زيادة مشكلاته حين ظهرت في الافق خطوات تشير إلى بدايات سياسية تختلف عن تلك التي كانت سائدة في فترة حرب الخليج الاولى. وحين تركز الضغط الدولي على نقطتين: وقف تطوير البرنامج الصاروخي وتجميد تصنيع سلاح «الدمار الشامل» لجأ صدام إلى الهجوم على الكويت في خطوة كان يرى انها بداية مساومة: الانسحاب مقابل السماح لبغداد باستكمال مشروعاتها التسليحية.
هذا التحليل لم يتوافق مع طبيعة التحولات الدولية آنذاك، كذلك جاء ليصب في المخطط المرسوم الذي استهدف استدراج صدام إلى المصيدة لتحقيق سلسلة اغراض استراتيجية ضخمة منها اختبار مدى ضعف الاتحاد السوفياتي الذي شارف على لفظ انفاسه الاخيرة وكذلك استنزاف الثروة النقدية العربية ووضع اليد على مصادر الطاقة وخطوط امداداتها... اضافة إلى ضرب الجيش العراقي وتدمير مؤسسات التصنيع الحربي.
هذه الاهداف مجتمعة كانت تقف وراء استدراج صدام إلى المصيدة التي وقع فيها. وكانت المصيدة محكمة الصنع إلى درجة تمنع صدام من الخروج منها فيما لو خطرت بباله فكرة العودة من حيث اتي.
إلا أن صدام لم تراوده فكرة الانسحاب من الكويت على رغم النداءات التي وجهت إليه وعلى رغم مشاهدته حركة الحشود العسكرية (البرية والبحرية والجوية) على بعد كيلومترات منه. فصدام اعتقد ان تلك التحركات مجرد مناورات لتخويفه معتمدا في ذلك على تقارير مشوشة وضعته في اجواء ايجابية تقول إن الادارة الاميركية منقسمة على الحرب وان الرئيس جورج بوش (الاب) لا يفكر في دخول مغامرة خاسرة وسيكتفي بموضعة جيشه دفاعيا لمنع صدام من التقدم.
اعتمد نظام بغداد على آراء خبراء وتقارير «مفبركة» لتخدعه متوهما ان اللقاء الغامض الذي عقده مع السفيرة الاميركية (غلاسبي) قبل اتخاذه قرار الاجتياح هو ضوء اخضر من جهات اميركية عليا.
حتى حين تمنى عليه الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران مجرد الاشارة إلى استعداده للخروج من الكويت ليبادر إلى طرح مشروع قرار دولي لحل الازمة رفض صدام الرد مفضلا تسوية مباشرة مع الولايات المتحدة على الرهان على مبادرة وعده بها الرئيس الفرنسي.
باختصار كان صدام يظن أن الحرب لن تقع، وأن واشنطن مترددة في خوض مغامرة عسكرية ضده، وانها في النهاية مضطرة إلى المساومة معه، وأن قوته بالمقابل تساوي قوة اميركا وان العراق سيكون القوة الثانية (بعد الاتحاد السوفياتي) في النظام الدولي الجديد.
وقع صدام في المصيدة وأكل الطعم. فكانت الكارثة... وكان ما كان
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 331 - السبت 02 أغسطس 2003م الموافق 04 جمادى الآخرة 1424هـ