أن تقنع المحافظين بأن التغيير أمر ضروري وأن من دونه تتكلس مبادئ الحياة، وأن تقنع بالمقابل المتطرفين بأن التغيير لابد أن يكون تدريجيا ليقدر له الدوام، تكون عمليا قد اقتربت من واحدة من أهم المبادئ الأساسية لفن الحكم.
مع كل يوم يمر على حكم الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي فان الرجل يكون قد اقترب أكثر فأكثر من تحقيق هذا الهدف الأسمى بالنسبة إليه منذ أن تسلم مقاليد السلطة التنفيذية في بلاده.
ثمة من يأخذ على الرئيس الايراني أنه ذهب بعيدا في أطروحاته الاصلاحية حتى بات يلامس أطماع الأجنبي في الاطاحة بأصل الحكم والنظام في بلاده. فيما ذهب آخرون إلى القول بأنه أضاع فرصا ذهبية كثيرة كان بامكانه استثمارها باتجاه القطع مع «الحرس القديم» والامساك بكل تلابيب السلطة!
ليس وحده الرئيس محمد خاتمي لم يكن يريد القطع مع العهد الذي سبقه، بل ان الجسم الرئيسي للحركة الاصلاحية التي دفعت به الى الواجهة السياسية في خضم «الولادة العسيرة» لعهده كان ومازال يعتقد بأن الاصلاح الوطني والتغيير سنة كونية لابد منها لأي نظام سياسي يعتمد جمهور الشعب مادته الأساسية في الحياة، وان ذلك لا يدوم ولن يكتب له النجاح إلا بالفعل التدريجي المثابر حتى يتحول الى ثقافة عامة، رضي بذلك الأجنبي أو لم يرض، وفرح بذلك المتزمتون أم حزنوا. المهم أن يبقى جمهور الشعب بفئاته المتعددة فاعلا حقيقيا في مسرح الحياة اليومية.
ما يجري في إيران في هذه الأيام من شد وجذب يكاد يقترب من «القطع» أحيانا من دون أن يقطع بعضه بعضا يوحي بأن مدرسة الاصلاح الوطني التدريجي المداوم باتت ثقافة عامة تجمع عليها القوى والفئات الفاعلة في إيران، لا يمكن لأي أحد كائنا من كان أن يقطع بغيرها بسهولة، بل إن من دون ذلك أخطار جسيمة لن يجرؤ أحد على تحمل مسئوليتها بتاتا. ان هذه «المأسيسة» للعملية الاصلاحية الوطنية ما كان يمكن لها أن تحصل من دون الاستعانة بمذهب الوسطية والاعتدال في تناول الأمور والتعاطي معها أيا كانت سخونتها أو شدة المخاطر المحيطة بها.
مع ثمة من يعترض هنا فيقول: ولكن ذلك كان متوافقا مع أثمان باهضة دفعها بالأساس جمهور الشعب العريض ناهيك عما دفعته النخب الصادقة والمخلصة من نفسها في سبيل الابقاء على «شعرة معاوية» مع الآخر الذي لم يكن ليرعوي عن اصراره وتشبثه بطروحاته ومشروعاته المقاومة للاصلاحات.
وإذا كان هذا صحيحا، لكن الصحيح أيضا بأن خيار القطع مع «الحرس القديم» لاسيما بطريقة المطالبين بالقطع الدموي أو النهائي وإلى الأبد مع الآخر كان بمثابة إما اعلان حرب أهلية مدمرة، أو فتح الباب واسعا أمام استيلاء الأجنبي على مقدرات البلاد بمجملها، ولو حصل مثل ذلك - لا سمح الله - لكانت الأثمان المقدر دفعها في تلك الحال أكثر بكثير مما دفع حتى الآن.
وما جرى ويجري في شرق ايران وغربها خير دليل وبرهان على من يقول بهذه النظرية، فما جرى ولايزال يجري أمام أعين النخب الايرانية في بلاد الأفغان وفي بلاد العراقين وهم يعرفون أكثر من غيرهم بأن جزءا أساسيا من مسئولية ما يحصل هناك تتحمله نخب تلك البلاد التي ذهبت إما بعيدا في «القطع» مع أهلها وجماهيرها وإما بعيدا في «الوصل» مع الأجنبي.
الأمر الذي يعطي الدروس اليومية للنخب الايرانية بأن أهم ما هو مطلوب منها اليوم هو «المصالحة» مع جمهورها العريض الذي هو المادة الحياتية لبقائها واستمرارها، وأنه لا سبيل للبقاء أكثر مما يجب، وأن المطلوب تداول السلطة والثروة مع الأجيال الصاعدة وبطريقة سلمية وتدريجية تؤمن ظروف «التقاعد» المحترمة و«المقدسة» للجيل القديم وشروط التسلّم «المحصّنة» والمصونة للجيل الجديد.
في نهاية الشتاء المقبل ستكون الانتخابات البرلمانية السابعة ميدانا جديدا لاختبار قدرة الجميع على التعامل السليم مع هذا الملف الجوهري في الحياة السياسية السليمة.
ثمة من أراد ولايزال أن يدفع بالبلاد الى الانسداد السياسي الذي يمنع حركة الدماء الشابة في جسم الحياة السياسية باتجاه التمهيد لاستبداد مبطن يأخذ الدين مرة والقيم الوطنية العامة مرة أخرى ذريعة من أجل تأمين مصالحه الذاتية.
بالمقابل فإن ثمة من أراد ولا يزال أن يدفع بالبلاد الى السقوط في أحضان الأجنبي حتى تخليصه تماما من كل هو مستقل وحر شريف يعتمد على أهل الدار معيارا أساسيا وفصل الخطاب في صناعة القرار، آملا في الانتقام لنفسه وذاته التي لا تجد موقعا لها مع ثقافة القادمين من وراء البحار البعيدة.
غير أن خاتمي ومعه الجسم الرئيسي لحركة الاصلاح الوطني الايرانية يأبي ضميرهم إلا أن يوصلوا الماضي بالحاضر من خلال استقلالية قرار طهران أمام الضغوطات الأجنبية أيا كان حجمها، وأن يصلوا الحاضر بالمستقبل الواعد من خلال عزمهم الراسخ باتجاه مزيد من الاصلاحات والتغيير المداوم لحركة السياسة اليومية ومشروعات التنمية البشرية والاقتصادية وفسح المجال واسعا أمام الابداع والابتكار اليومي للجيل الصاعد مع سكان البلاد.
وحدهم الغارقون في نوم عميق في كهوف القرون الوسطى أو المستغرقون عميقا في حلم الاستقواء بالخارج على الداخل - وهما وجهان لعملة واحدة - سيخسرون الرهان على جمهور الشعب الايراني الذي سيفاجئه في اللحظة التاريخية المناسبة
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 330 - الجمعة 01 أغسطس 2003م الموافق 03 جمادى الآخرة 1424هـ