العدد 329 - الخميس 31 يوليو 2003م الموافق 02 جمادى الآخرة 1424هـ

للموت حرمة وللحياة شروط

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

صور عدي وقصي صدام حسين وهما مسجيان مشوهان نتيجة المعركة التي أودت بحياتهما في الموصل، تصدرت جميع نشرات الأخبار في العالم خلال الأسبوع الماضي، وتدفقت التحليلات في الفضائيات العربية وغيرها من وسائل الاتصال والنشر تشرح أسرار حياتهما الصاخبة والعنيفة والقصيرة والمتهتكة. وتعيد التذكير بما فعله الأخوان، إبان حكم أبيهما في العراق، من عبث بأرواح الناس وأموالهم. إذ بلغ في عسفه وفجوره حد الخرافة.

لقد ارتحت ولم أفرح لمشاهدة تلك الصور، إذ للموت حرمة لدى الإنسان السوي، إلا أن الارتياح جاء بسبب يقيني بأن ما قام به الأخوان من تنكيل بالشعب العراقي بكل فئاته الاجتماعية وشرائحه، والذي كان غريبا عن العقل بسبب فظاعته، وكفره بكل القيم الإنسانية، لم يعد ممكنا الآن. ولكني لم افرح لأن السؤال الأهم هو ليس ما فعله الأخوان وغيرهما أثناء فترة تسلطهما على العراقيين، بسبب ما هيأه لهما النظام العراقي بكل كوادره وأفكاره التي بثها، بأن يقوما بما قاما به. إنما السؤال الأهم هو كيف يمكن لنا باعتبرنا عربا أن نمنع مثل هذه الأعمال الوحشية حتى لا تتكرر من جديد من (قصي وعدي آخرين) ربما يتشكلان اليوم في بيئة عربية أخرى، أو حتى في العراق... ذلك هو الهاجس الذي يقض مضجعي.

إن أردنا أن نعرف كيف لا يتكرر ذلك، علينا أن نعرف كيف أمكن حدوث ذلك في بلد مثل العراق، وهي بلاد ليست ريفية بالمعنى الاقتصادي، فيصبح المواطنون فيها أقنانا، ولا هي بلاد تنتشر فيها النخاسة فيصبح المواطنون فيها عبيدا يرضون بما يقرره السيد. بل هي بلد له تاريخ طويل من الحضارة، كما له تاريخ من الممارسة السياسية الطويلة نسبيا منذ الثلث الأول من القرن العشرين حتى منتصفه على الأقل. وتضم العراق متعلمين وكتابا ومفكرين وسياسيين فطنوا الحياة ومارسوها بكل أشكالها الحديثة. بل هي بلاد في تاريخها الحديث خصبت بيئتها عقول ذات سوية عالية من الإبداع، فقد أبدعت العراق المدرسة الحديثة في الشعر العربي وقدمت شعراء وكتابا مثل جميل صدقي الزهاوي والرصافي والجواهري والبياتي وعبدالعزيز الدوري وعلي الوردي وجواد علي وغيرهم من سلسلة الأعلام والمثقفين والشعراء والمفكرين الذين أغنوا المكتبة العربية الحديثة بنتاج عقولهم النيرة.

كيف حدث ما حدث، وكيف له ألا يتكرر؟

ما حدث من طغيان في العراق سببه عدد من العناصر نرصد منها ثلاثة أساسية، تداخلت مع بعضها كل بمعياره، ودرجة تأثيره، لتنتج في النهاية هذا الشكل من الطغيان القبيح الذي سنقرأ عنه ونسمع قصص أفعاله التي تقارب الخيال، لفترة طويلة من الزمن، وتصبح معه فترة حكم الجبابرة في التاريخ، شكلا بدائيا مقارنة بما قام به من أفعال.

العنصر الأول الذي يجب أن ينصرف النظر إليه هو التكوين الفكري: فالبعثية نابعة من توليفة من الفكر الفاشي والنازي الذي تغذى عليه نفر من العرب، رضع من منابع الفكر الأوروبي اليميني، أطلق في الفضاء العربي بُعيد الحرب العالمية الثانية بشكل مهجن، يحمل الإعلاء والاصطفاء العرقي، وينظر إلى «الأمة» على أنها فوق الأمم، وان تاريخها الطويل يمكن أن يتكرر من خلال عصبة مؤمنة تُسلم قيادة الأمة إلى مجموعة صغيرة من الناس هم البعثيون. انهم ادرى بمصالحها، ولا يهم شكل ونوع التضحيات من البشر التي تقدم من أجل «الوصول» إلى تحقيق ذلك «الحلم».

مثل هذه الفكرة الضبابية العامة هي التي استولت على عقول الشباب في الخمسينات والستينات من القرن الماضي في بلدان عربية كثيرة، في الفترة التي بدأت معها بلدانهم تتحول من الشكل القديم «شبه الإقطاعي» إلى شكل «مدني» لم يتحدد شكله بعد، ومن «استعمار غربي» إلى «استغلال نسبي» اجتذب عددا من الأفئدة الشابة على مقاعد الدراسة تهوى هذا الطرح، وأخذت الفكرة على عاتقها الادعاء بهدم البناء القديم، على أساس أنه تشكل تحت الاستعمار، لبناء جديد مخالف.

ولما استولى حزب البعث العراقي على السلطة وظهرت الممارسة اليومية أكثر رداءة من السابق، وجد كثير من «المناضلين» انفسهم تدريجيا، إما مهمشين أو ضحايا أو مبعدين، وتطور الأمر إلى أن تحول «الحزب» إلى «شخص» والدولة الى «إقطاعية» لعائلة القائد والمقربين منه. فر من فر، ووُسد الثرى من وُسد من «الرفاق» وهاجر الباقون في الآفاق بعد أن ساهموا بشكل كبير أو محدود في الوضع الذي وصلت إليه بلاد ما بين النهرين، من عبادة الفرد الأوحد، الذي لا راد لرأيه، ولم يكن ذلك إلا تجسيدا للفكرة العنصرية التي ضربت على وتر الغرائز والعصبيات.

لقد فرخت الفكرة مع الممارسة نتيجتها الطبيعية، فهي التي نظرت بدونية إلى الآخر «الخارجي» ثم تحولت النظرة الدونية إلى الداخلي، لذلك لم يكن مستغربا أن يتناول الخطاب البعثي العراقي في مفرداته على مر السنين، مفاهيم مثل المجوس والعلوج والأجلاف، بجانب الخونة والجواسيس. كلها مفردات تعظم من النفس وتزجر الآخر بوضعه في خانة أقل عرقية أو وطنية أو سياسية، ولم يتعلم أحد الدرس القاسي الذي عانى منه أعداء النازية والفاشية أو أعداء حكم الطغيان في التاريخ، وهو أن «السكوت عن الصراخ في الوقت الذي يذبح فيه الآخر، صمت مطبق عندما يأتي وقت ذبحك!». وهكذا تضخمت أجهزة القمع وصفقت لبعضها بعضا ثم تناحرت على الغنائم.

العنصر الثاني هو النفط: ربما لو كان العنصر الأول وحيدا من دون النفط لم تستطع «العائلة/ العشيرة» أن تبحر في خضم السياسة العراقية المضطربة، ولكن الفكر طُعم بالنفط وأمواله في بلاد لم تخلق متعمدة أجهزة رقابية على الموازنات الباهظة، لأن خلق الرقابة على المال يسبقه تنظيم للدولة الحديثة، ولم يكن الفكر البعثي على استعداد لخلق تلك الدولة، لأنها لا تنسجم مع فكرة الاستحواذ الكامل على السلطة والمال معا، فتحول «الثوري» لهذا السبب إلى «والٍ» من ولاة العصر الوسيط، يعطي ويمنع، بيده المال والسيف معا. فغرفت السلطة العراقية ذلك المال الوفير من أجل إسكات المعارضين، وحشد الأنصار.

كتب عدي مقالا في صحيفة «بابل» - (كتبه أو كُتب له لا فرق) - قبل أشهر قليلة من قتله، موقع باسمه المستعار المعروف «أبوحاتم» - والتسمية هنا لها رمزية أيضا تعود بنا إلى «حاتم الطائي» - مفاخرا كيف استخدم المال لإنقاذ الأردن فقال: «بعد نهاية الحرب العراقية - الإيرانية حين كان هنالك مسعى إلى إثارة الاضطرابات فيه (الأردن) وكيف أن الرئيس صدام حسين ارتدى ملابسه العسكرية، وأخذ أعضاء قيادته العامة للقوات المسلحة بكل قيافتهم الميدانية، وكيف انهم هبطوا جميعا بالطائرة وبـ (جرة قلم) حوّل الرئيس صدام حسين إليهم 250 مليون دولار لدعم موازنتهم في حينها، وبعيدا عن مظاهر القوة والمال، فما إن فهم الأشقاء والأهل في الأردن مبدأ صدام حسين واتجاهه إلى دعم حال النظام الذي كان موجودا هناك تلافيا للفتنة ـ فهذا معناه أن في ذلك خدمة للامة ولمصلحتها ـ استكانت كل مظاهر الثورة والتمرد تلك التي كانت تدعمها جهات عربية نتيجة خلافات شخصية مع الملك حسين - رحمه الله - خلال مدة لا تتجاوز الساعتين أو الثلاث ساعات... وهي المحصورة بين الساعة التي وصلت فيها الطائرة العراقية والساعة التي غادرت فيها».

إذا تجاوزنا ركاكة النص، فإنه مثقل بالمعاني بشأن أهمية المال في جمهورية البعث العراقية. وتعزز هذا التوجه مجموعة من السياسات العراقية المستمرة التي تؤمن بأن «المال» يمكن أن يشتري الناس والأوطان. وقد استخدم المال النفطي أولا لشراء الضمائر ولإسكات ضمائر أخرى في الداخل والخارج، ثم أخيرا لشراء دول، عن طريق المنح والمنع في التجارة الخاصة مع العراق من النفط إلى البضائع الاستهلاكية. ومن يفتش عن استخدام المال يرى أن عقلية عشائرية بالغة التخلف كانت خلف تلك الممارسة، إلى درجة أن كتابات واسعة ظهرت في العراق، وخصوصا في صحيفة «بابل»، تشير إلى إمكان شراء الأميركان بالمال أو النفط، «اعطوهم جزءا من المقاولات النفطية يغيروا من سياساتهم!».

موضوع المال غير المراقب في مثل ظروف العراق يغري بالاستزادة منه، والاستزادة منه تفتح أبوابا من الطمع لا سبيل إلى إغلاقها، وتخلف من الخصال الأسوأ. وهكذا صار الصراع محتدما بين امبراطوريات «عدي» و«قصي»، وقبلهم حسين كامل ووطبان وبرزان وغيرهم من الاقربين. كما صارت معسكرات الاعتقال وسجن المخابرات ملجأ لكل منافس أو مقاوم لهذه الامبراطوريات من التجار والمتسببين. ثم أصبح الجهاز الوظيفي في معظمه مرتشيا ناهبا بما فيه قطاع واسع من الجهاز العسكري والمدني، وبما أن الفكرة هي أن «المال كل شيء، فلا يجب أن يبقى منه شيء للآخرين»، انطلق سباق جهنمي في بلاد ما بين النهرين من أجل ذلك.

أما العنصر الثالث فهو الإعلام، وفيه قول كثير لعل أهمه ما صرح به رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط» عثمان العمير، وتم تداول ما قاله على نطاق واسع - ومازال - عما يدفعه الرئيس من مال إلى الصحافيين. وقد سمعت ممن عمل فترة في الأجواء الإعلامية القريبة من الرئيس السابق، وهو أيضا شخصية معروفة ومعارضة، أن هناك ما يسمى «ثمن مصافحة الرئيس» وله معيار من المال محدد. لقد استخدم الإعلام المضلل من أجل تسويق سلعة فاسدة، وعلى أوسع نطاق. وهو إعلام انتشرت أدواته ومساحة التغطية لديه في السنوات التي حكم فيها البعث العراقي إلى حد كبير حتى بات يقرر ما يفكر فيه العامة. وربما نتيجة لهذا التضليل مازالت عقول عربية تعتقد بـ «معجزات» حققها النظام العراقي، وهي في الحقيقة لا تعدو أن تكون مقابر جماعية تقشعر لها الأبدان، من جراء أفعال القتلة الساديين.

إذا، «الفكر والمال والإعلام» شياطين ثلاثة، يمكن لمن يحصل عليها في عالمنا العربي أن يكرر ما تم في العراق، والدرس ألا نجعلها تحت طائلة شخص أو فئة، فإن من شروط الحياة أن تكون للمجتمع سلطة رقابية حقيقية عليها. فهل وصلت الرسالة بعد أن دفنت الجثث؟

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 329 - الخميس 31 يوليو 2003م الموافق 02 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً